خبير عربي: العلماء السابقون أسّسوا للعلوم الإداريّة قبل قرون، والمعاصرون تجاهلوا مؤلفاتهم



اعترف خبير في العلوم الإدارية بأن الأكاديميين العرب المعاصرين لم يتوصلوا حتى اللحظة إلى نموذج إداريّ يمكن أن يمثل الإدارة العربية رغم الأهمية التي باتت تمثلها العلوم الإدارية في العصر الحديث.

وأكد الدكتور ناصف عبد الخالق أستاذ الإدارة في الجامعات المصرية على أهمية استخلاص نظريات وأساليب إدارية تنبع من القيم الإسلامية والعربية، ولا تحاكي الغرب في أساليبه المستوحاة من قيم بعيدة عن الروح الإسلامية.

وذكر الخبير العربي في هذا الصدد أن المسلمين لن يحلوا مشاكلهم الإدارية والسلوكية المتعددة من خلال تبني مفاهيم مثل (الهندرة) وما شابهها والمستندة إلى تقاليد وعادات الغرب.

ونبّه الدكتور ناصف عبد الخالق إلى الدور الكبير الذي يمكن أن يقوم به الأكاديميون العرب في توفير فكر إداري يمثل الواقع العربي وتجاربه التاريخية قائلاً: إنّ هناك الكثير من المؤلفات الإسلامية التي تناولت جوانب مهمة في الإدارة وعلى الأكاديميين المعاصرين أن يعيدوا قراءتها واكتشافها من جديد.

* هل لدينا فكر إداري يمثل تجربتنا، ويقدم أنماطنا وأساليبنا الإدارية بطريقة علمية، كتجربة تدخل ميدان تبادل الخبرات؟
ـ تبدو معضلتنا نحن الإداريين العرب شديدة لكوننا لم نتوصل إلى أي شكل أو نموذج إداري متعارف يمثل الإدارة العربية، كما أنه ليس من باب الترف أن نحاول استخلاص بعض القواعد والمبادئ العلمية والعملية من سلوكنا لتأسيس نموذج إداري عربي.
إن الإدارة في هذا العصر قد بلغت ذروتها بأنها أصبحت تقف خلف نجاح جميع الإنجازات والابتكارات والأنشطة التي جعلت عدداً من الشعوب في مصافّ الدول المتقدمة. ولكن ميزة هذه الإدارة التي نتحدث عنها أنها استنبطت نظرياتها وأساليبها من قيم وثقافات شعوبها. أما المجتمعات غير المتقدمة فمن أسباب تخلفها أنها استوردت نظريات وأساليب الإدارة الغربية بغية تقليدهم واللحاق بهم، متناسين أن الإدارة مهما قيل عنها فإنها تبقى علماً سلوكياً يهتم بالفرد والجماعة وكيفية اتصالهم ببعض وكيفية إنجازهم لأعمالهم.
فاليابان انغمست بنقل التقنية الغربية وعلومها العلمية ومحاكاتها إياها، إلا أنها في الوقت نفسه رفضت قبول النظريات والأساليب السلوكية والإدارية الغربية، وصاغت من موروثها المحلي منهجاً إدارياً يتلاءم مع أنماط سلوكهم وثقافتهم، مما جعلها تتبوأ هذه المكانة الرائدة على الصعيد العالمي.
ومن هذا المنطلق يجب ألا نعتقد بأننا سوف نحل مشاكلنا الإدارية والسلوكية المتعددة من خلال تبني مفاهيم مجردة مثل: الهندرة، الجودة الشاملة، الإدارة بالأهداف... وغيرها. بل يجب تقييم تلك المفاهيم والأفكار وفقاً لمعطيات ومتطلبات مجتمعاتنا.

الفكر الإداري وواقعنا المعاصر

* ما هو الدور الذي يقوم به أساتذة الجامعات في توفير فكر إداري يمثل واقعنا وتجربتنا؟ أم أن دورهم يقتصر على النقل والترجمة واقتراح توفير كتب معينة من الخارج؟
ـ لم تتعد التنمية الإدارية والإصلاح الإداري لدينا حدود تكريس البيروقراطية المثالية، والتي أثبتت فشلها مرة تلو الأخرى. وكنت أتمنى لو أن هذه الجهود قد صُبّت في دراسات وأبحاث لاكتشاف أساليب ونماذج إدارية تتماشى مع ثقافتنا السائدة، وتأخذ في اعتبارها سلوك الفرد في مجتمعنا وأنماط تفكيره.
إن غالبية الإصدارات العربية في مجال الإدارة لا تتعدى النقل والترجمة، أو أقلمة النظريات والأساليب الإدارية الناجحة والادّعاء بأنها تتماشى مع ثقافتنا وأنماطنا، حتى البيروقراطية وهياكلها التنظيمية وإجراءاتها المعقّدة وفكرها المغاير أُشيع بأنها تتماشى مع موروثنا الإسلامي والاجتماعي!!

* ما الذي أعطى للمدرسة البيروقراطية تميّزها في المجال الإداري؟
ـ يعتبر ماكس فيبر الذي عاش في الفترة 1864- 1920 منظراً لنظرية البيروقراطية. وهو من أصل ألماني كان راهباً متديناً بروتستانتياً، ثم اشتهر كعالم اجتماع درس جميع الأديان. ولم يعد خافياً أن ماكس فيبر قد بلغ من اعتزازه بالبروتستانتية إلى الحد الذي يراها خلف نجاح الرأسمالية في الغرب، ولأجل ذلك صاغ من التنظيم الكنسي النموذج البيروقراطي الإداري، الذي يتلاءم مع الأنماط السلوكية لشخصية الإنسان الغربي المسيحي. ولا شك بأن نجاح ماكس فيبر لم يأت نتيجة تخمين أو عن نقل تجارب الآخرين، إنما بناء على دراسات وأبحاث استنتج خلالها بأن التنظيم المطبق في الكنائس البروتستانتية هو التنظيم المناسب لمنظمات الأعمال بعد إجراء التعديلات، بحجّة أن الناس قد اعتادوا على نظام الكنيسة، فعلى سبيل المثال لا الحصر التسلسل الإداري الهرمي للكنيسة، والمراتب الدينية ومسمياتها المتعددة، والالتزام الحرفي بالتخصصات، وأساليب الاتصالات ومرورها عبر قنوات محددة، والتدرج الوظيفي من أسفل السلم الهرمي إلى أعلاه وفق قواعد وشروط محددة. وقد أطلق ماكس فيبر على نظريته البيروقراطية وتعني سلطة المكتب. وقد حبكها فيبر جيداً، والدليل أنها جاءت مفصلة على المقاس بالنسبة للمنظمات الغربية.

إداريّة إسلاميّة

* هل لدينا إسهامات إداريّة إسلاميّة يمكن استلهامها؟
ـ يوجد كثير من المؤلفين المسلمين القدامى، ولكن إسهاماتهم تحتاج إلى إعادة قراءة لكي نؤسس عليها علماً جديداً. ومن هؤلاء المؤلفين (أبو بكر الطرطوسي) من رجال القرن الثاني عشر وكان تلميذاً لابن حزم, ومن أكبر علماء الأندلس في إشبيلية, ثم رحل إلى المشرق, ودرس في بغداد, وله كتاب في علم السياسة اسمه (سراج الملوك) قدّمه للوزير المأمون بالفسطاط... وهو يتناول فيه نصائح للملوك ويحلّل صفات الولاة, والقضاة, والعلاقة بين الحاكم الأعلى ورعيته ونظام الدولة, وصفات الوزراء, والجلساء, والشروط الواجب توافرها في حاشية السلطان, وعلاقة السلطان ببيت المال وموظفيه, وكيف يعامل أهل الذّمة ونحو ذلك. وقد ذكره ابن خلدون في مقدمته وأثنى عليه. ومنهم عبد الرحمن بن عبد الله كان معاصراً للسلطان صلاح الدين الأيوبي, وألف له كتابا أسماه (المنهج المسلوك في سياسة الملوك).
ومنهم ابن حماتي المصري كان قبطياً ثم أسلم, وله كتاب (قوانين الدواوين) وثانيهم كتاب (الفاشوش في أحكام قراقوش) عُرف باسم قراقوش، وهو وزير صلاح الدين الأيوبي.
ومنهم عثمان بن إبراهيم النابلسي الذي كان يشرف على الدواوين المصرية في القرن الثالث عشر, وألّف كتاباً اسمه (لمع القوانين المضيئة).

* ما هي أهم التحدّيات في تحقيق التميّز في برامج التعليم والتدريب الإداري في العالم العربي؟
ـ يُعدّ التعليم الإداري اللبنة الأولى لتشكيل عقول الكوادر البشرية العاملة، حيث يرتبط مستواها وقدراتها بكفاءة التعليم وفاعليته.
ولذا يُعدّ التعليم محوراً أساسياً من محاور أي برنامج طموح للتنمية الإدارية وخطط الإصلاح الإداري.
واليوم فإن أمام الجامعات وكليات التجارة والإدارة العربية متطلب أخلاقي ووطني يتطلب منها وقفة مع النفس لتقييم أوضاعها منطلقة من نظرة علمية موضوعية ومحايدة، تضع الصالح العام نصب أعينها، لكي تلقي الضوء على مشكلات وسلبيات ومواقع نكوص التعليم الإداري. وأسباب تدهوره بصفة غالبة في الأقطار العربية.
إن المقارنة مع التطورات المذهلة للتعليم الإداري في الدول المتقدمة وحتى في بعض الدول النامية كماليزيا وجنوب أفريقيا مع واقع حال التعليم الإداري في البلدان العربية، وفي ظل استحضار استحقاقات المتغيرات الاقتصادية والتقنية والتطور في الاتصالات والمعلوماتية، يتأثر لدينا حجم الفجوة أولاً، وكذلك الحاجة الأكيدة لحزمة قوية وفعّالة من برامج تحديث وتطور التعليم الإداري، ودون توفير متطلبات الشروع الفوري يبدو مستحيلاً إيجاد فرصة لاحقة لحقن أي تطوير في الإمداد البشري الإداري للتنمية في البلدان العربية.
أما التدريب الإداري فيقوم على توفير متطلبات الارتقاء المستمر بالعنصر البشري إلى مستوى مهامه التي تؤشّرها استحقاقات دوره الإداري في العمليات التنموية.
والتدريس الإداري يحتل أهمية لا جدال في مضمونها سواء في الأقطار العربية عالية الكثافة السكانية، حيث يُعدّ تطور العنصر البشري لتعويض النقص في عناصر الإنتاج الأخرى، أما في الأقطار العربية ذات الكثافة المنخفضة، فإنه يحقق أعلى معدلات كفاءة استخدام العنصر البشري المتاح، ويعد هدفاً بالغ الأهمية وخاصة في ظل سياسات إحلال العمالة الوطنية محل العمالة الوافدة والأجنبية.
عموماً فإن التطورات العالمية وعلى مختلف الاتجاهات، وما أفرزته من معطيات كالمنافسة والجودة وحرية التجارة واتفاقية الجات تشير جميعها إلى أن قدرات ومهارات الأطر العربية في مواجهة تحدّيات حقيقية لا سبيل لإغفال استحقاقاتها سوى الانزواء نحو الهوامش وضياع التاريخ القادم للبلدان العربية.

تحديات عربية

* ما هي أهم التحديات الإدارية التي تواجه مدننا العربية حالياً؟
ـ تواجه المدينة العربية تحدّيات كبيرة تتلخص في قدرتها على مواجهة التحولات العالمية المتسارعة التي أنتجتها ثورة المعلومات والاتصالات، حيث بدأت تظهر مفاهيم جديدة لم تعهدها المدينة العربية من قبل، فمن الثورة المعلوماتية إلى العصر الرقمي والعولمة والتجارة الإلكترونية فالحكومة الإلكترونية وغيرها من المفاهيم. مما أوجد جواً من التحدي والتنافس بين مدن المنطقة، ووضعها على المحك في مواجهة رياح التغيير، فإما أن ترتقي مدننا لمستوى التحدي وتتخذ موقعاً مميزاً على خارطة المدن العالمية الحديثة، أو تبقى في صفحات التاريخ تتغنى بإنجازاتها وتاريخها العريق.
إن ما يميز ثورة المعلومات والاتصالات عن الثورة الصناعية التي غيّرت ملامح المدن الغربية هو أنها في متناول الجميع وليست حكراً على أحد. وفي هذا فرصة كبيرة للمدن العربية التي لم تستطع الاستفادة من مزايا التغيير في الثورة الصناعية، إذ إنه أصبح بإمكان المدن الآن أن تستخدم تقنيات المعلومات والاتصالات لتحديث نفسها ولبس ثوب رقمي يزيد قدرتها التنافسية ويمنحها بُعداً جديداً من خلال تبني مشاريع "الحكومة الإلكترونية" والتي تُعنى بتقديم الخدمات العامة للمواطنين عبر الوسائل الإلكترونية الحديثة.

الحكومة الإلكترونية

* وهل الحكومة الإلكترونية مدخل لتطوير الإدارة في عالمنا العربي؟
ـ بدأت الأجهزة الحكومية ومؤسسات القطاع العام في بعض الدول المتقدمة والنامية بتبني مفاهيم الأعمال الإلكترونية؛ لإنجاز نشاطاتها وأعمالها اليومية، ولتقديم خدماتها للمواطنين، وقد تبلور هذا المفهوم عندما أتاحت هذه الأجهزة والمؤسسات تقديم تلك الخدمات عبر الوسائل الإلكترونية (شبكة الإنترنت، الهاتف...) للأفراد والإدارات الحكومية وكذلك القطاع الخاص. وقد كان للتطورات السريعة في تقنية المعلومات أثر عميق على الطريقة التي يعمل ويتواصل بها الناس في شتى بقاع الأرض، مما يتطلب تطوير طرق التفاعل بين المواطنين وأجهزة الحكم المحلي.
إن الحكومة الإلكترونية هي نمط متطور وجديد من الإدارة يتم من خلاله رفع مستوى الأداء والكفاءة الإدارية وتحسين مناخ العمل لتسهيل كافة الخدمات والأعمال التي تقدمها المؤسسات الحكومية للمواطنين. وتحت هذا النمط الجديد من العمل يتمكن المواطن من إنجاز كافة المعاملات الحكومية وحتى استصدار الوثائق الرسمية عبر الوسائل الإلكترونية مثل الإنترنت والهواتف الخلوية والأرضية وبسرعة وفعالية عالية.
والمدينة العربية لم تتخذ موقف الحياد من هذه الثورة الرقمية التي اجتاحت العالم، بل دخلت معترك التحول وبقوة لتواجه تحديات ربما تفوق إمكاناتها؛ لترسم هويتها الجديدة كمدينة عصرية تستفيد قدر الإمكان من تطور نظم المعلومات والاتصالات، وتكرّس موقعها على الخريطة الرقمية للعالم، حيث بدأت العديد من المدن العربية -مثل: دبي، مسقط، عمان، الكويت، القاهرة … وغيرها- بتبني مشاريع الحكومة الإلكترونية لما لها من فوائـد عديدة، وبدأت في تنفيذها تدريجياً، فبدأ بالفعل تقديم الخدمات والمعلومات عبر الوسائل الإلكترونية وشبكة الإنترنت. وحققت هذه التجارب نقلة نوعية في مستوى المدينة العربية لتصبح في مصافّ المدن الكبرى في العالم.

نقلا عن موقع الإسلام اليوم
القاهرة/ السيد أبو داود