حين كان الحلفاء في نهاية الحرب العالمية الثانية قلقين من اطماع الزعيم الروسي ستالين في اوروبا، كان هناك وزير يتجه صباحاً بهدوء الى مكبته طالباً فنجاناً من القهوة، ثم يغلق الباب على نفسه ويشرع في اطلاق الفكر لتشكيل رؤية تساعد في الخروج من مأزق المد السوفييتي المتجه نحو اوروبا الغربية بقيادة الفارس الاحمر ستالين الذي انتهى تواً من دك اعمدة الرايخ الثالث في برلين رافعاً العلم الاحمر على انقاضه. وذلك الوزير هو مارشال صاحب «مشروع مارشال» الشهير والخاص باعادة اعمار اوروبا، وهذا المسلك اظهر ان التفكير لدى هذا الوزير كان في المقدمة بعيداً عن ضجيج العجزة وصراخ المحبطين. وطبقاً لمشروع مارشال الذي تمخض عنه التفكير العميق للوزير مارشال، ثم تم ضخ مبلغ 15 بليون دولار للاسراع في اعادة اعمار اوروبا، واعادة تشغيل آلية النظم السياسية المحطمة فيها بهدف ابعاد شبح الهيمنة السوفييتية على مقدرات اوروبا الغربية بعد ان اصبحت هذه الهيمنة امراً واقعاً في اوروبا الشرقية، وهكذا تم التخلص من مخاوف هيمنة الدب الروسي على اوروبا الغربية بقيادة التفكير الهادئ. وعلى الرغم من ان معظم السياسيين الذين يقودون العالم هم عادة سبب بلاء الناس وحروبهم. الا ان الاستفادة من جوانب خبراتهم وحكمتهم العملية ضرورة يفرضها العقل.


في عرف اهل الحكمة، فإن التفكير يلزم ان يحتل موقعاً متقدماً في تشكيلة انماطنا السلوكية، وذلك باعتبار ان التفكير يعد احد ابرز اساليب العمل الفاعلة، واحد اركان عملية التخطيط وتشكيل الرؤية واتخاذ القرار وبناء الرأي والموقف بعيداً عن معاطب الارتجال والعاطفة، وما لم يكن الانسان من ذلك النمط الذي يمتهن التفكير قبل الابحار في عالم الانجاز والعمل، فإنه قد يغدو ورقة في مهب الريح، او طائراً بجناح ضعيف، او امّعة يخوض مع الخائضين لا يدري في اي وادٍ هلك، يقول الامام موسى الكاظم عليه السلام في هذا المجال: «لاتكن امعة.. لا تقل انا مع الناس وانا كواحد من الناس، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم قال: يا أيها الناس انما هما نجدان: نجد خير ونجد شر، فلا يكن نجد الشر احب اليكم من نجد الخير». ومن الجدير بالذكر، ان انواع التفكير تختلف حسب مجال استخدامه، فهناك التفكير الايجابي الذي يلعب دوراً ملحوظاً في انعاش الحالة النفسية وخلق التفاؤل في اجواء النفس، وهو الامر الذي يتيح اجواء تفجير القدرات الشخصية الكامنة واخراج الانسان الى حيز الفاعلية والابداع وهجر الكسل والتسويف والاماني، يقول الامام علي عليه السلام في هذا المجال: «السرور يبسط النفس ويثير النشاط، الغم يقبض النفس ويطوي الانبساط»، ويقول انتوني روبينز في كتابه «قدرات غير محدودة» في هذا المجال ايضاً: «ان فهم الحالة النفسية هو مفتاح التغيير وتحقيق التفوق، والسلوك يأتي نتيجة لحالتنا النفسية.. ومفتاح تحقيق ذلك بنجاح هو ادارة الذاكرة بتكوين تمثيل يخلق باستمرار الحالات النفسية التي تمد الفرد باكبر قدر من القوة». وبالاضافة الى التفكير الايجابي، هناك ايضاً التفكير الذي يستهدف الاستزادة العلمية، حيث يختلي الانسان بنفسه مركزاً على امر معين بهدف استجلاء غوامضه وتوسيع دائرة معرفته بشأنه من خلال التأمل المصحوب بنوع من الاسترخاء الذهني، وفي اشارة الى هذا النوع من التفكير يقول الامام علي عليه السلام: « لاعلم كالتفكر». وهناك ايضاً التفكير الاداري ، حيث يتم من خلال هذا النوع من التفكير شحذ طاقاتنا الفكرية لرسم الاهداف والطموحات ووضع خطط العمل التي تمكننا من بلوغ تلك الاهداف والطموحات باعلى قدر من الكفاءة، علماً بأن التفكير الاداري نمارسه بشكل روتيني في حياتنا اليومية، ولكن الاغلبية من البشر لا يدركون انهم يمارسون هذا العمل الفكري اثناء قضاء حوائجهم اليومية واهدافهم الحياتية، وبالتالي فإنهم لا يسعون لاستخدام هذا النوع من التفكير بفاعلية لتطوير اهتماماتهم واهدافهم وتطوير بيئتهم وتفعيل خطط عملهم، وبدلاً من ذلك يكتفي الاغلب من الناس بالتفكير الاداري الارتجالي والتخطيط الارتجالي السريع والسهل الذي يشاركهم فيه القاصي والداني، وذلك في حين ان هذا النوع من التفكير يستلزم ايفاؤه حقه من خلال احترام آليات التفكير الاداري الفعال، كتخصيص اوقات منتظمة لهذا النوع من التفكير، وتنظيم الذات بهدف انتشالها بعيداً عن تداعيات الفوضى المدمرة لقدرات التركيز الذهني، والمُربكة لآليات السيطرة على الذات والذاكرة، علماً بأن اثراء الحياة بصورة عامة لا يمكن ان يتم على النحو المطلوب في ظل غياب التفكير الاداري الفعال القائم على رسم اهداف عالية القيمة ووضع خطط عمل شديدة الفعالية.



وفي اشارة بليغة الى اهمية التفكير وضرورة استخدامه كقاطرة لقيادة الحياةيقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « ان التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور، يحسن التخلص ويقل التربص»، ويقول ادوارد دي بونو في كتابه «التفكير العملي»: «سيهدف التفكير العملي الى تمكين الانسان من فهم ما يدور حوله للقيام بردود افعال مناسبة واجراء التغيرات اللازمة». ويروي التاريخ ان العظماء واهل الحكمة كانوا يخصصون اوقاتا كثيفة للتفكير بعيداً عن صخب الناس وازعاج البطالين، وذلك بهدف ترشيد الأداء وفهم الكون وادراك مجاهيل النفس وبلوغ الغايات، وفي هذا الشأنيروى ان لقمان الحكيم رضي الله عنه كان يطيل الجلوس وحده، وكان يمر به مولاه فيقول له: يا لقمان، انك تديم الجلوس وحدك، فلو جلست مع الناس كان آنس لك، فيقول لقمان: «ان طول الوحدة افهم للفكرة، وطول الفكرة دليل على طريق الجنة».


_________________