يحتاج الإنسان في وقت النصر وزمن الحرية للتمسك بأسباب الثبات والحرص على الوسائل المرجوة للوصول إلى الغايات المنشودة، ولعل أبرزها يكون بالخضوع والخشوع وإظهار الذلة لله تعالى والخجل بين يديه لعظيم فضله وقلة الجهد وضعف الأسباب.

وهو ما يتضح جليا في موقف الحبيب صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة ونصرته الكبرى وفرار المشركين والتماس بقيتهم العفو والصفح وتكسير الأصنام وإيمان الكثيرين وإعلاء التكبير والتوحيد من فوق الكعبة وأين الحبيب صلى الله عليه وسلم؟ يدخل باكيا ناظرا إلى أسفل خاشعا متبتلا يتلو بيان النصر ونجاح الثورة ضد الشرك والطغيان قول الله تعالى: (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا).

وسيكون من واجبنا الإكثار من التبتل والذكر والخشوع والبكاء والشكر وقيام الليل والدعاء(أفلا أكون عبدا شكورا) (ولئن شكرتم لأزيدنكم).

ومن أسباب الثبات وضوح الرؤية جيدا وعدم الخلط بين الغاية والهدف والوسيلة، وكلها معان تربوية تصحح المسار وتضمن السير في المضمار حين تأخذ كل كلمة موضعها من الأفعال ونصيبها من الفهم والبذل والإجلال.

فالغاية الله بحيث لا ينافسه في قلوبنا منافس ولا يبطىء سيرنا إليه تهديدات ولا مغريات لا نلتفت عنه ولا نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، فلا نرضى إلا بلوغ غايتنا، وكما قال أحدهم:

الله غايتنا وهل من غاية

أبهى وأسمى من رضى الرحمن..

فمن التفت عن غايته ضل الطريق وتفرقت به السبل، قال تعالى "وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله" وقال "ص" "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله".

وهى غاية لها شرفها وسماتها ومن سمات غايتنا هذه أنها لا تقبل الشريك "من عمل عملا وأشرك فيه غيري فهو لغيري وليس لي فيه شيء" حديث شريف.

ومن سماتها أنها لا تتحقق في الدنيا إنما هي للآخرة حين نسمع النداء: "يا أهل الجنة ألكم حاجة

فيقول أهل الجنة يا رب وما حاجتنا ألم تغفر ذنوبنا ألم تبيض وجوهنا ألم تدخلنا الجنة؟ فيقول الله عز وجل: بل أزيد فتنجلي الحجب عن الله عز وجل فما أعطوا أفضل من النظر إلى وجه الله الكريم" حديث شريف.

ولهذا هي غاية تضمن لصاحبها العمل لها حتى الممات لا حتى النصر في مرحلة من المراحل.

ومن سماتها أنها لا تتحمل الالتفات عنها ولا تقبله مهما كانت المغريات والتحديات وقديما كان أساتذتنا يضربون لنا الأمثلة على هذا برجل وقع في بئر وظل أياما وأشرف على الموت وبينما هو كذلك رأى حبلا ملتصقا بجدار البئر متهالكا ضعيفا فأمسك به وصعد بحذر شديد وبينما هو كذلك إذا بفأرين أسود وأبيض يريان الحبل فيتحركان نحوه ويقرضان فيه فازدادت خطورة الموقف وتهديد انقطاع الأمل وهو في منتصف الطريق إلى النجاة إذا به -وهو على حالة الحذر واقتراب الوصول- يرى عشا للنحل يسيل منه عسل مصفى.

يا ترى هل تراه يلتفت لهذا العسل؟ هل يخطف لعقة؟ يسد بها جوعته أم يمضي في طريقه لينجو بنفسه قبل فوات الأوان وسط ما هو فيه من الأخطار، وقال أستاذنا الدنيا هي البئر والحبل هو العمر والفأران هما الليل والنهار والغاية النجاة فهل يلتفت إلى الإغراء صاحب هذا الهم، وكنا كذلك نرى المطاردة بين كلب وذئب والذئب قد يكون أسرع بمراحل إلا أن المطاردة ينجح فيها الكلب ويمسك بالذئب لأننا نرى الذئب يقفز قفزة ثم يلتفت للخلف ليرى هل اقترب منه من يطارده أم لا هذه الالتفاتة تعطله فيقع في يد عدوه.

ورجل الدعوة غايته الله والله يقول له: "لن يصلوا إليك بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون".



حماسة عند التردد

ومن سمات غايتنا أنها تتلألأ في أعين أصحابها تثبتهم عند الضعف وتحمسهم عند التردد ألم تتلألأ في عين عبد الله بن رواحة رضي الله عنه يوم تردد في مؤتة هنيهة من الزمن فنهض يقول:

أقسمت يا نفس لتنزلن.. لتنزلن أو لتكرهن

قد أجلب الناس وشدوا الرنة.. ما لي أراك تكرهين الجنة

ثم أثار النفس بالإغراءات الإيمانية:

حبذا الجنة واقترابها.. طيبة وبارد شرابها

واستشهد ومع ذلك تأخر سريره عن سرير صاحبيه قليلا فى الجنة كما أخبر صلى الله عليه وسلم، فأين سرير أصحاب الدعوات اليوم فليسأل رجل الدعوة نفسه.

وواجبنا ألا نخلط بين الغاية والهدف فغاية صاحب الدعوة (الله جل وعلا) والآخرة أما الهدف فهو ما يريد به إرضاء ربه والقيام بوظيفته على هذه الأرض ولذلك فالهدف له سماته فهو يتحقق في الدنيا وهو في وقت محدد ووفق قدرات محددة وبناء على مسح الواقع وحصر الفرص والتهديدات وهو ما يسمى بالأخذ بالأسباب ولهذا علينا السعي وليس علينا إدراك النتائج.

وقد أقضي عمري وأموت ولا أحقق الهدف الذي أسعى إليه ومع ذلك أفوز برضى الله تعالى والجنة، كما فعل مصعب بن عمير وغيره قديما رضوان الله تعالى عليهم وكما حدث مع شهداء الدعوات مدى العصور وكم من مجاهد لقى ربه على درب الدعوة وقضى نحبه ولم ير لحظة النصر وتحقيق الأهداف، والعكس وارد قد يحقق واحد الهدف ولكنه بلا إخلاص لن يصل غايته.

فالإصلاح والعدالة والحرية والكرامة وتعمير الدنيا بالخير والحق وعبادة الناس ربَّ الناس جل وعلا، كل هذه أهداف نسعى إليها ونموت في سبيل تحققها ولا نستبدلها كذلك بغيرها لأنها عند رجل الدعوة هي مرادات الله من عباده فلا يحيد عنها ولا يستبدلها بغيرها وإن أبطأت الخطى نحو التحقيق فليصبر فليس هو مؤلفها ولا واضعها لنفسه ليغيرها أو يتنازل عنها عند الشدائد والصعوبات إنما هو منفذ أمر الله فيها: "قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي..".

لذلك كنا نسمع من الأستاذ مصطفى مشهور رحمه الله في أحلك الظروف وأشد أيام المحن وهو يعرف بالدعوة وأنها قامت بعد سقوط خلافة المسلمين وكان من أهدافها الفرد المسلم والأسرة المسلمة والمجتمع المسلم والحكومة المسلمة ولم يتحسب لحاكم أو ديكتاتور فيكتفي بمرحلة ويتنازل عن أخرى أو يخشى استفزازهم فيخفي هدفه لحين.

فإن وصل رجل الدعوة هدفه هل انتهى عمله فيحط رحاله؟ طبعا لا، فهو صاحب غاية ولو اختلط عليه الأمر فارتقت الأهداف إلى مستوى الغاية سقطت الغاية والأهداف معا.

وهناك الوسيلة وهي الطرق التي توصل إلى الأهداف أو تقرب منها ولها مكانتها وسماتها كذلك، فهي عند رجل الدعوة شريفة تأخذ شرفها من شرف الهدف الذي تريد أن تحققه فالغاية لا تبرر الوسيلة إنما هو الإخلاص واتباع ما يوافق الشرع من وسائل مشروعة.



الوسيلة ليست المقصودة لذاتها

والوسيلة إن تعطلت أو فشلت لا يموت رجل الدعوة دونها ولا يتشبث بها إنما يبحث عن غيرها فهي ليست مقصودة لذاتها كالماء العذب يجرى في الجداول فإن سددنا الطريق بحث الماء عن طريق آخر فيميل يمنة أو يسرة فإن وجد الطريق مغلقة توقف وقوفا ايجابيا ينتظر المزيد حتى يعلو السد فيكون كالطوفان فإن فقد الطريق تتدفق إلى باطن الأرض ليحافظ على عذوبته ولا يقف ليتعفن ويتأسن، وهو يثق أن الناس ستطلبه يوما من ينابيعه وينفقون -عند عطشهم وحاجتهم- في سبيل إخراجه الكثير والكثير.

فواجبنا أن تبقى الوسيلة وسيلة لا ترقى إلى مستوى الغاية ولا الأهداف فهي من اجتهاداتنا نحن ووفق نظرتنا المحدودة قد تتبدل وتتغير مع تغير المكان والزمان والأحوال، فمن اختلط عليه الأمر فتمسك بالوسائل تمسكه بالغاية والأهداف سقط معهما جميعا.

ومن أسباب الثبات حسن الرفقة واختيار الصحبة وأصحاب الرأي والمشورة ممن إذا نسيت الله ذكروك وإن ذكرت أعانوك بل قال الأوائل:

أخاك أخاك أن من لا أخا له

كساع إلى الهيجا بغير سلاح

وما أشد حاجتنا اليوم إلى الأخ الذي يشتد عضده في الخير بأخيه كما قال تعالى "سنشد عضدك بأخيك..".

ولنأخذ من عمر رضي الله تعالى عنه فقه الأخوة وحق الأخ على أخيه إذا رآه ينهار أو ينحرف أو يتساقط.

فهذا عياش بن ربيعة خرج في صحبة عمر في الهجرة فتبعه عمرو بن ربيعة وعمرو بن العاص وقالوا له: يا عيش إن أمك قد أقسمت ألا تستظل حتى تعود وألا تأكل حتى تعود وألا تغتسل حتى تعود، فقال يا عمر هي أمي وإني عائد، فقال عمر بلسان المنطق والدراية بعزائم أهل الشرك الخاوية وألاعيبهم الماكرة: يا عياش إذا آذى الجوع بطن أمك لأكلت إذا آذى القمل رأسها لاغتسلت وإذا آذت الشمس رأسها لاستظلت.

فصمم على العودة لأهل الشرك واستجاب للعواطف وترك الهجرة والرسالة فماذا قال له عمر وهو يراه على هذه الحالة من التساقط والضعف: يا أخي إذا كنت فاعلا فخذ ناقتي هذه فإنها سريعة فإذا وجدت من القوم غدرا تعينك على العودة!

الله أكبر إيثار وقت التساقط فكيف يكون تلاحم هذا الصف وقت القدم في القدم والكتف في الكتف، قال تعالى "واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعدُ عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا".

أسباب الثبات كثيرة لكنها مع حسن الفهم ورجاحة العقل نور و بصيرة وإرادة رب ومحض فضل والله تعالى يقول: "ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا"