انظر إلى من حواليك، فقد تجد الكثير من جيرانك الذين يعانون من المشاكل ـ من واحدة منها في كل مرة على الأقل ـ أي من الهواجس obsessions (أفكار ملّحة، متطفلة أو مقتحمة، ومثيرة للقلق) أو الدوافع القهرية compulsions (إلحاح لا يمكن مقاومته لتكرار بعض أنواع السلوك).
ولهذا، فإن الإجابة هي: لا، لأن هذه الأعراض لوحدها، لا تشير إلى وجود حالة مشخصة لاضطراب الوسواس القهري obsessive ـ compulsive disorder أو (OCD).

تشخيص الوسواس القهري

يشخص الأطباء اضطراب الوسواس القهري فقط عندما تؤدي أعراضه إلى ألم أو حزن متزايدين، وإلى استهلاك وقت طويل من المصاب به، أو أنها تتداخل مع عمله، أو نشاطاته الاجتماعية، أو علاقاته.

وكما هو الحال مع مختلف أنواع التشخيصات الخاصة بالأمراض العقلية فإنه لا يوجد حدّ واضح بين الإصابة بهذا الاضطراب وبين عدم الإصابة به.

ورغم وجود معلومات جيدة جدا لدى الأطباء حول مدى الإصابة بهذا الاضطراب، فإنه لا تتوفر لديهم سوى دلائل إحصائية طفيفة حول إمكانية إصابة الأشخاص الذين لا تظهر عليهم علامات الاضطراب الكاملة.

إذ لا تشير تلك الدلائل إلى وجود احتمال شائع أو غير شائع للإصابة، عند ظهور بعض أعراض اضطراب الوسواس القهري لدى أولئك الأشخاص.

دراسة حديثة
قدم باحثون من نيوزيلندا نشروا دراستهم في مجلة «أميركان جورنال أوف سايكتري» (المعنية بدراسات طب الأمراض العقلية ـ المحرر) مساهمة جوهرية في معارفنا في هذا الميدان.

فقد نشروا نتائج دراسة أجريت مع نحو 1000 شخص تمت مقابلتهم وجها لوجه وتشخيصهم. وهم من مواليد مدينة دانيدن، ثاني المدن الكبرى في الجزيرة الجنوبية في البلاد.
وقد ولد جميع المشاركين عامي 1972 و1973، وظلوا تحت التقييم منذ ولادتهم وحتى عمر 35 سنة.

وهذه هي أول دراسة كبيرة تبحث في كيفية حدوث اضطراب الوسواس القهري داخل المجموعات السكانية، وكيفية استمرار أعراضه مع نمو الأشخاص وعبورهم مرحلة الطفولة نحو البلوغ.
وقد طلب الباحثون من المشاركين في الدراسة إعلامهم بأي درجات من الألم أو الحزن الناجمين عن الأعراض.

كما دققوا في بيانات بمقدورها أن تتنبأ بالأشخاص الذين سيتوجهون لطلب العلاج.
وظهر أن 2 في المائة من هذه العينة المدروسة علامات تطابقت مع معايير تشخيص اضطراب الوسواس القهري.

وهذه النسبة متماثلة مع النسبة التي توصلت إليها مختلف الأبحاث التي أجريت في أنحاء العالم. إلا أن الأعراض لم تظهر فقط على هذه النسبة من الأشخاص.
فقد ظهرت أعراض الوسواس القهري لدى 13 ـ 17 في المائة من بين الأشخاص الذين لم ترصد لديهم أي علامات مشخصة لهذا الاضطراب العقلي.

كما ظهرت الأعراض لدى نحو نصف (حتى 49 في المائة) من الأشخاص الذين شخصت لديهم أمراض عقلية أخرى غير اضطراب الوسواس القهري، مثل اضطراب المزاج أو القلق.
وكانت الهواجس الأكثر شيوعا هي الأفكار المُخجلة، والهموم حول احتمال إلحاق الأذى بشخص آخر بالصدفة. أما أكثر الدوافع القهرية فكانت «ضبط» التصرفات، التي كانت تنفذ لدرء إلحاق الأذى بأحد الأحباء من الأقرباء.

وقد وجد البحث أن الأشخاص الذين لم يشخص لديهم اضطراب الوسواس القهري، قد يعانون مع ذلك من أعراض الهواجس أو الدوافع القهرية.
إذ ظهرت بين الذين لم يعانوا من أي اضطراب عقلي، نسبة الثلث أو أكثر الذين عانوا من الهواجس لفترة أسبوعين.

إلا أن نسبة أقل بلغت أكثر قليلا من 10 في المائة عانوا من الدوافع القهرية.
ولاحظ الباحثون في هذه الدراسة أن أعراض اضطراب الوسواس القهري ظلت مستقرة منذ مرحلة الفتوة إلى مرحلة البلوغ الأولى.

ولم يتوجه إلا القليل من الأشخاص لطلب العلاج.
وأشار الدكتور مري شتاين الباحث في جامعة كاليفورنيا في سانت دييغو الذي نشر مقالة من التحرير مرافقة للبحث، إلى أن حالات الأمراض العقلية المُشخصة ـ وكذلك أعراض الأمراض العقلية ـ لا تقود بالضرورة إلى طلب العلاج.

ففي الواقع فإن أغلب الأشخاص ينجحون في التعامل مع أعراض الأمراض العقلية من دون اللجوء إلى طلب مساعدة الاختصاصيين.
ولم يوجه هذا البحث إلى رصد الفحوى الديناميكي للقصص التي تقبع خلف أكثر أعراض اضطراب الوسواس القهري شيوعا.
فالشعور بالخجل أو الاهتمام بسلامة الأحباء القريبين هي اهتمامات إنسانية مهمة ومتواصلة.
وهي تتفاعل مع عدد من الاندفاعات والرغبات والمسؤوليات التي تبرز من خلال مختلف أنواع العلاقات الجديرة.

وإن كنا من المصابين باضطراب الوسواس القهري سواء الذين شخصت حالاتهم أم لم تشخص، فإن القليل منا سيتمكن ولوحده من التعامل مع هذه المشكلة.

ولذا، وعندما تظهر فكرة غير مريحة لتتحول إلى هاجس، أو أن يتحول سلوك أوتوماتيكي إلى دافع قهري يهزم عزيمتنا، فإن من المعقول أن نتوجه لطلب للمساعدة.