التوثب الذاتي: كيف تجعل كتابتك جذابة وعميقة ؟



إن نقل الأفكار إلى الآخرين من خلال الكتابة عمل مارسه الإنسان منذ العصور القديمة , فقد كانت

الأداة شبه الوحيد لحفظ المعرفة .

فالذهن يصبح قلقا حتى يتمكن من نقل ما به من أفكار إلى غيره سواء بالكلام أو الكتابة , وكما

يقال : " فإن القلم أحد اللسانين " , و تقول إلين ماري :" الكتابة فن , لكنها نوع من التواصل مع

القارئ , فإذا فشل التواصل فشل الفن , وفشل التواصل خطأ الكاتب أكثر من خطأ القارئ " , ويقول

جين تايلور :" الكتابة فرصة ثانية للعيش , فحيث لا نستطيع أن نعيد الوقت لنعيش مرة أخرى فمن

الممكن العيش في الحدث مرة أخرى وتفسيره من خلال الكتابة " .


و في ظني أننا في زمن أصبح بيد الغالبية منا أن يوصل فكرته بطريقة مكتوبة خصوصا مع وجود

الإنترنت .


إن الكتابة الراقية - سواء كانت مقالا أو كتابا - تعتمد على عدد من العوامل , ولعلي أتعرض لبعض

منها من خلال النقاط التالية :

(1) إيجاد الفكرة :

يقول الدكتور راشد العبدالكريم : " يعتقد بعض الناس – ممن يرغبون في أن يكونوا كتابا – أن الأفكار

تنزل على الكاتب على شكل إلهام , بحيث تهجم عليهم دون مقدمات , وهذا قد يكون صحيحا في بعض

الأحيان , لكن الأفكار عادة ولدى أكثر الكتاب تحتاج إلى استمطار وتحتاج إلى معالجة لتكتمل وتصبح

قابلة لأن تطرح بشكل مكتوب " .

ويضيف : " فالكاتب يجب أن يبحث عن الأفكار ويستدرها ويولدها ويتولاها بالرعاية حتى تكبر , وكثيرا

ما تكون الأفكار حول الكاتب ترفرف وتنتظره ليجعلها تهبط على الورق من خلال الكتابة , بينما هو

ينتظرها حتى تهبط عليه ليكتب ".


ومن منابع الأفكار ما يلي :

1-التفكير والتأمل فيما يدور حول الإنسان مثل :
- أحوال الطبيعة , مثل ( أن السماء تمطر – بإذن الله - بمجرد أن يغير الانسان من سلوكه ).
- سلوك الكائنات , مثل : ( أن العنكبوت تنسج خيوطها لتلقف كل ما يمر بها فكذلك على المرء الطموح ألا يفوت أي فرصة تجعله يتقدم ) .
- الأحداث الجارية في العالم .
- التجارب الشخصية وتجارب الآخرين .
- الأحوال المعيشية وطريقة العيش للمجتمع والتغيرات المحيطة بهم , مثل مجهود ابن خلون في مقدمته المشهورة .
- تتبع حاجات وهموم الناس وإيجاد الحلول لها .

2- الحس المرهف والإنصات الجيدة لأحاديث الناس , مهما كانت ثقافتهم وأعمارهم .

3- طرح الأسئلة على الذات .

4- القراءة : وهي الأهم , والكلام عنها طويل , لكن يجب على الكاتب أن تكون لديه قائمة بالأفكار

المدونة من خلال قراءته .

لأن أسوأ حبر أفضل من أقوى ذاكرة , وحتى تكون كاتبا مميزا لابد أن تكون قارئا مميزا .

5- الحوار , فإن الأفكار تكون أكثر نضجا عندما تلوكها ألسنة الحوار .



(2) اجعل الفكرة تنضج فلا تتسرع في نقل أي فكرة حتى تقضي وطرها من النمو , وقد تحتاج الرجوع

إلى أهل العلم والخبرة والتجربة حتى تكون فكرتك أكثر قوة , كما أن بعض الأفكار لا تستطيع الكتابة

عنها مباشرة حتى تتضح ملامحها وتقاسيم شكلها .


(3) قبل أن تبدأ بكتابة فكرتك في مقال فمن الأفضل أن تبحث بشكل أوسع حتى تطعمها بدليل شرعي أو

مقولة لخبير أو إحصائية لمؤسسة أو حتى أبياتا من الشعر .

يقول الكاتب جابريال ماركيز : " الفترة التي تلي العثور على الفكرة وتسبق الشروع في الكتابة هي

فترة البحث والتنقيب ...." .


(4) اكتب في مجال اهتمامك , حيث يجب على الكاتب أن تكون أفكاره في مسارات محددة تمثل في

النهاية المسارات التي توصله إلى تحقيق مشروع حياته .


(5) جدد أفكارك , فلا تكن ناقلا لأفكار غيرك كما هي , لكن لا بأس أن تستفيد من جهود من سبقك , و

لتكن هذه الجملة شعارك : " تميز في طرحك أو اطرح ما قد طرح من قبل بشكل مختلف ورائع " .


(6) لا تستهين بأي فكرة , فقد تعتبرها أنت قديمة أو معروفة بينما قد لم يسمع بها غيرك .


(7) اكتب دائما , وليس من الضروري أن تنشر كل ما تكتب , لكن المهم أن تعود ذهنك وقلمك على

ممارسة ترجمة الأفكار المعنوية إلى كلمات مكتوبة . يقول الرافعي : " ينبغي أن تكتب دائما , فإن

فكرك كما يظهر في حاجة إلى المران حتى تستجيب للمعاني والأساليب " , ويقول جاك هيفرون :" اتقد

أن كتب النصائح حول الكتابة قيمة ويمكن أن تلهم وتعطي بعض التوجيهات التي توفر الوقت والجهد ,

ولكن لا يمكن أن تكون بديلا عن الوقت الفعلي الذي تصرفه في الكتابة ..." .


(8) يقول الكاتب كانفيلد : " إن بعض الناس يقضي حياته بأسره في انتظار الوقت المثالي للقيام بعمل

ما , ونادرا ما يكون هنالك وقت مثالي للقيام بأي عمل , المهم أن تبدأ " .


(9) اكتب وكأنك تتحدث للورق , لا تنشغل بتطريز المقال , اترك الأفكار تنساب من عقلك كما هي ,ولا

تراجع من البداية , فتلك مسودة أولية لن يراها غيرك , وعندما تنتهي منها بدل وغير وأضف كما

شئت .


(10) حدد الشريحة التي تخاطبها وافهم واقعهم , وتخيل لو كنت مكانهم كيف ستتلقى ما كتبت .


(11) اربط كتابتك بالواقع , فلا تكن ممن ليس له هم سوى الكتابة في الغرائب والعجائب دون أن تؤثر

كتابته في تغيير سلوك القارئ .


(12) ليس من الضروري أن تحول كامل فكرة إلى مقال كامل , بل من الجميل أن تترجم الفكرة إلى

قصة أو حادثة حتى لو كانت رمزية , ولا بأس من أن تعلق بشكل يسير , فالقصة تلامس مشاعر

القارئ وتوقظ ذهنه ليتخيل الفكرة , وهذا أسلوب قرآني .


(13) لابد أن تكون فطنا لكل ما تكتب , فلا تكتب شيئا لا تفقه أو لا تعتقد صوابه , لأن كتابتك هي نافذة

تطل على عقلك .


(14) لا تبتعد عن الكتابة طويلا فيصدأ قلمك , وتتخشب أفكارك .


(15) حاول أن تكون متقنا لقواعد اللغة , وعلامات الترقيم .


(16) دبج كتابتك بكلمات رنانة ناصعة غير متقعرة , فالفكرة بدون بيان ساحر يفقدها وهجها ورونقها ,

فكم من أفكار قوية لم تقرأ بسبب انطفاء الجمال اللغوي في رسمها . وهنالك عدة طرق لاكتساب كلمات

جميلة منها أن يكون لديك دفتر خاص تكتب فيه كل كلمة أو جملة جذابة وعميقة , سواء مما تقرأ أو

مما تسمع , إضافة إلى أن يكون لديك بعض معاجم المفردات اللغوية , فبعد أن تكمل كتابة الفكرة بشكل

أولي بإمكانك أن ترصع المقال بمحسنات بديعة آخاذة تأسر القارئ ويطرب لها .


(17) اقرأ في الكتب والمقالات التي تعطي رؤى حول الكتابة الجيدة أو احضر دورات تدريبية .


(18) لابد أن تتجلد وتصبر على الاستمرار في الكتابة , يقول الرافعي : " وما أرى أحدا يفلح في

الكتابة والتأليف إلا إذا حكم على نفسه حكما نافذا بالأشغال الشاقة الأدبية , كما تحكم المحاكم بالأشغال

البدنية الشاقة ..." .


(19) إن من يجعل الكتابة له عادة سوف يشعر بمتعة عظيمة جدا جدا , لأنه سوف يجد اللذة عندما

تقفز إلى ذهنه فكرة فسوغها بشكل سريع وجميل ثم ينشرها فيجد أثرها في دنيا الناس .


(20) ليس هنالك طريقة واحدة متفق عليها للكتابة الجيدة , فلكل أسلوبه الفردي , لكن جميع الكتاب

الرائعين متفقون على المبادئ الأساسية .

(21) هنالك ما يسمى " حبسة الكاتب " وهي فترة لا يستطيع الكاتب أن يكتب أي شيء , وهذا أمر

طبيعي جدا لدى معظم الكتاب , وقد كان الفرزدق يقول : " تمر علي الساعة وقلع ضرس من أضراسي

أهون علي من عمل بيت من الشر ". كما ذكر أن الرافعي مكث شهرا لا يكتب شيئا .

لكن الذي يميز الكاتب الجيد عن غيره أن لديه قدرة على التعامل مع هذه الحالة , فلا تكاد تبدأ حتى

تنقشع وتعود له حماسته .


لا أقصد بما بكل ما ذكرت سابقا أن الهدف الوحيد هو كتابة مقال فقط لا , ولكن تكمن أهمية صياغة

الأفكار وكتابتها في تكوين مادة قوية للمرء في مجال اهتمامه , حيث يمكن له أن يقدمها في أي قالب

يتوفر لديه حسب القدرة والرغبة والفرصة , فمنا من يقدمها على شكل محاضرة أو كلمة أو تسجل في

شريط , أو من خلال مؤتمر أو ندوة , أو عبر برنامج إذاعي أو تليفزيوني , وبهذا يكون المرء على ثقة

بأن ما يريد نفع الأمة به متوفر وجاهز لديه , ويمكن له أن يجعل كل ذلك في ملفات معينة كما يمكن له

مع الوقت أن يطورها وينميها , وحينها سوف يشعر بالرضا والهناء .