عضو مميز
- معدل تقييم المستوى
- 24
الوطـن الأكبـر
الوطن هو ما تقف عند حدوده الأحلام ، وتتوحد في خدمته الإنتماءات المختلفة ، هو تاريخ لم نره ، وحاضر نحياه ، ومستقبل نتمناه ، والناس تحيا وتموت في أوطان شتى .
فمنهم من يتوطن أرضه أو بيته وقريته ، ومنهم من يتوطن أحلامه وطموحاته الشخصية... وإذا بحثنا في التاريخ عن معنى الوطن ، وإذا تجولنا في الحاضر لنتعلم عن رمز الوطن شيئاً ، لتساءلنا كلنا ..
ماهو الوطن ؟.
أهو الشجر والماء والطرقات ؟.
هل هي الأرض التي نعيش عليها حتى ولو كانت صحراء جرداء ؟.
أم هم الأهل والعشيرة والأصدقاء ؟ .
ربما كان الوطن هو كل هؤلاء ، وربما هذا هو الذي يدفعنا لنضحي من أجله بكل غالٍ وثمين ، ولكن هل للوطن معنى آخر ؟ .
وللإجابة عن هذا السؤال خرجت الكلمات ، فما كان من صواب فمن الله تعالى ، وما كان من خطأ فمن تقديري وغربتي عن وطني ...
مبادئ ولكنها أوطان:
إن فكرة الإنتماء إلى وطن ما دون غيره لم تكن فكرة إختيارية ، فكل منا جاء إلى الدنيا في أرض ما ، وبين قوم ما ، وعلى تقدير مصير ما ، فأصبح كل هذا له وطن ، وأصبح بِحُكْم غريزة الإنتماء والبقاء يدافع ويحمي هذا الوطن .
حتى من يهاجر من بلده إلى بلد آخر ويتخذ لنفسه وطناً جديداً بثقافات جديدة وعادات أجدد ، هذا الشخص يشعر بالإنتماء لهذا المجتمع الجديد ، ولنطلق عليه مجازاً "الوطن الإختياري" .
وهكذا ينمو الفرد ويتشكل وجدانه فيتخذ وطنه مبدأ يدافع عنه ويحميه ، وهذا هو الوطن المبدأ ، وعلى جانب آخر نجد أنه هناك من اتخذ من مبادئه وأفكاره وطناً له ، لايهم إن كانت هه المبادئ صحيحة أم لا ، لايهم إن كان سيشاركه فيها أحد أم لا .
ولكنه يدافع عنها بحمية حب الوطن بل هي أشد حباً ، فيجعل مبدأه وطنه ، ثم يصير عقيدته ، وينتهي به الأمر أن يتخذه إلهاً يسير في تعاليمه ويقدم له القرابين ليرضا ، وفي هذا يقول تعالى:
" أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ" (الجاثية 23) .
وبتعدد أنواع البشر وتعدد أفكارهم تتعدد إنتماءاتهم ، ولو كانوا ممن يجعلون الأفكار مبادئ ، والمبادئ قوانين ، والقوانين دستور ، لصار لكل منهم وطنه الخاص به ، ومن ورائه جيوشه المؤهلة للدفاع عنه ، ومن هنا تتعدد الأوطان بين أبناء الوطن الواحد ، وتتعدد الإنتماءات في الكيان الواحد ، فتجد الناس في شعب واحد لهم قلوب شتى وأنت تحسبهم جميعاً ، وعند هذا الحد لن يكون لكلمة وطن أي معنى ، بل لن يكون لهذا الوطن وجود يُذكر.
القِـبْـلة:
لكل وطن غاية ، وقلب واحد يجب حمايته ، وفي هذا القلب توجد الأفكار والمبادئ التي تنظم حياة أبناء هذا الوطن وساكنيه ، وهي فيما بينهم دستوراً لحياتهم .
مبادئ عامة وأهداف جماعية تخدم الوطن ككل وليس مجرد أفراد منه ، ولذلك نجد أن التيار المضاد لهذا النظام هم أولئك الذين اتخذوا من مبادئهم الخاصة أوطان لهم من دون الوطن الأم .
تنمو بداخله فتشتت أوصاله وتفرق جماعته ، ولكي يستطيع كل قائد أو زعيم أو ملك أن يوحد شعبه ورعيته ، فعليه أن يجد سلوك ومنهج ونظام يصلح لأن يكون قِبْـلة يرضاها الجميع ، ويسعون لإعلاء شأنها بين الأمم ، وبهذا فقط ترقى الأوطان وتسمو .
وكلما كانت القِبـْلة قريبة من أفكار الناس وطموحاتهم ، وكلما كانت تمثل لهم العدل فيما بينهم ، كلما كانت هدفاً سامياً راقياً يسعى إليها الأفراد قبل الجماعات متعاونين ومؤيدين ، ويتنافس الزعماء والملوك في وضع أسس القبلة التي تجعل من أوطانهم أعلى الأوطان وأغلاها ، وفي ذلك يتنافس المتنافسون .
جامع القلوب:
إن للقلوب صفة تشريحية وجسدية موحدة ، ولكنها شتى في الميول والأهواء ، فما يحبه هؤلاء يبغضه هؤلاء ، وما يقتنع به هؤلاء يرفضه وينكره هؤلاء ، وهكذا ...
يقول تعالى: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" (هود 118 - 119) .
فهل ستجد كل هذه القلوب ضالتها وهدفها المشترك ؟.
أم ستظل على شتاتها وغربتها عن الوطن الواحد ؟ .
العقول محدودة بحدود المادة ، والأحلام محدودة بحدود الحاجة والإحتياج ، وهناك دائماً واقع أبعد وأوسع من خيال البشر ، فمثلاً لم يكن يوما من أحلام الإنسان الأول أن يسير على القمر ، ولكن عندما حدث هذا وصار واقعاً اتسع خيال الإنسان العصري ليحلم بالحياة في الفضاء .
وأصبح هذا الحلم مُباح بعد أن كان أبعد من خياله ..أو فلنقل كان خارج حدود حلمه السابق ، وبما أن واقعنا قد سبق حلم الأجداد ، فواقع الأحفاد يمكنه أن يسبق أحلامنا .
ولكن القلوب لها شأن آخر ، فالقلب في عطائه ومشاعره لا يعترف بالحدود ، بل ويمكنه أن يقود شخص ليفعل أمور ما كان ليتخيل أنه قادر عليها ، والإنسان إذا وضع في قلبه إيماناً بفكرة ما ، نمت وصارت مبدأ ، ثم يتحول المبدأ إلى عقيدة تملأ كل وجدانه ، عقيدة لها واقع وأحلام ومستقبل .
وهذا ماجعل أمة تسكن الصحراء الجرداء تعلو وتقود وتسود العالم 1200 عام ، أمة تتواجد وترفض الرحيل عن خريطة الدنيا قرابة الـ 1500 عام ، فما الذي جمع لها القوة ؟ والمبدأ ؟ والوجود ؟ والعقول ؟ ثم اضاف لها القلوب ؟
الوطن الأكبر:
لكي تتحد القلوب على وطن واحد لابد لها أن تحيا على مبدأ واحد .. شعور واحد .. إنتماء واحد ، واحد يتحدى تنوع أفكار العقول وأحلام القلوب .
إنه الواحد الذي يضيئ نفس الطريق لبشر مختلفين الأجناس والعادات والطبائع ، يدعوهم إليه قائلاً: " وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" (آل عمران 103 ) .
ها هو قد وضع القِبـْلة ووحد الهدف ونصح بالأمر ، فلم يترك لأحد فرصة أن يجتهد في أن يجد له وطن وجماعة وشعب وأهل ، لم يترك لأحد فرصة ليضل الطريق ، نعم ... إنه الواحد المقصود ، فلا إله إلا هو رب العرش العظيم ، إنها وحدوية القادر على توحيد القلوب والمبادئ والشعور ، يقول تعالى: "وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (الأنفال 63) .
إنه الوطن الأكبر ، ذو المبدأ الواحد ، والقلب الواحد ، والمصير الواحد ، إنه ببساطة مبدأ للإله الواحد.
إن الإنتماء إلى وطن شعاره "الله أكبر" ، هو الإنتماء إلى الوطن الأكبر ، وطن أحادي الفكر والعقيدة والشعور ، فتصبح الأفراد جماعة ، والجماعات شعب ، والشعوب أمة واحدة ، ثم تتحول هذه الأمة إلى شخص واحد ، إذا مرض منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى ، هذا الشخص الواحد الذي يجيد بل ويحترف السجود لله.
هذا ما أردت قوله ، فإن لم يكن لنا وطناً واحداً نرضاه جميعاً فلن يمكن أن يكون لنا أوطان على أرض واحدة ، والشعوب المتباينة يمكنها أن تنتمي لوطن واحد رغم تباعدها الجغرافي والثقافي .
هذا بتوحيد الفكر والمبدأ والشعور ، بوحدة العقيدة ، فالكل يتبع إله واحد وعقيدة واحدة ... وغياب العقيدة والحبل المتين والمنهج الواحد يجعل من الوطن أوطاناً ، فيصبح البيت هشاً كبيت العنكبوت ، ربما يبدو متماسكاً ومنتظماً ، ولكنه أهون البيوت على الله وأضعفها.
قالها تعالى في أمره للناس جميعاً بأن يتمسكوا بحبله المتين ، قالها للناس جميعاً ، فهي دعوة لقلوب كل الناس ، دعوة من رب الناس ، فهل من مُجيب من الجِنَّة والناس؟
المفضلات