حدثني أحد الشباب عن تجربة زواجه الفاشلة قائلاً: «أوه يا دكتور.. والله كنت عارف أنها ليست الزوجة المناسبة.. كان قلبي يخبرني بذلك، لكني لم أستمع له، ودفعت ثمن ذلك غاليًا». استوقفتني هذه العبارة.. كان لدى هذا الشاب صوت داخلي يحدثه ويسدده حول القرار المهم الذي سيتخذه، والذي ندم فيما بعد على عدم الاستماع له. هذا الصوت الداخلي هو ما نسميه بـ(الحدس)، وهو موضوع يزداد الاهتمام به يومًا بعد يوم خاصة أننا نعتمد على حدسنا في اتخاذ العديد من القرارات اليومية الصغيرة والكبيرة.

هل مرت بك مثل هذه التجربة.. تقابل شخصًا لا تعرفه.. ثم تحدث نفسك: (لا أدري، لكني لم أحب هذا الشخص.. لم أشعر بالارتياح له).. أو (أشعر بأن هذا الشخص صادق، كاذب، منافق..)، أو قد تستمع إلى عرض شركة تقدمت لإنجاز مشروع مهم لشركتك فتشعر: (لا أعرف، لكني أشعر بالارتياح للتعامل مع هذه الشركة).. أو تقرأ عقدًا تجاريًا وتشعر بعدم قبولك لهذا العقد لسبب غير واضح.. وهكذا.
في الأمثلة السابقة لاحظ كيف خطرت على بالك أفكار وخواطر سريعة باتجاه شخص أو حدث دون أن تعرف بالضبط سببها، وليست ناتجة عن عملية تفكير منطقية متسلسلة. بمعنى آخر: «أن تعرف شيئًا دون أن تعرف كيف عرفته!» وهذا ما نستطيع تسميته بالحدس أو ما يحلو للبعض اعتباره (الحاسة السادسة).
الحدس هو عملية تفكير لا واعية تنتج عن تفاعلنا مع حدث معين أو شخص معين أو عند اتخاذ قرارات أخلاقية أو مبدئية أو اتخاذ مواقف معينة.. قد يأتي الحدس على شكل إحساس، أو فكرة، أو خاطرة، أو صورة ذهنية، أو أعراض جسدية خفيفة (غصة، أو انقباض في المعدة، أو غير ذلك). والواقع أن الحدس أمر نلجأ إليه بشكل يومي ومتكرر دون أن نعي ذلك بشكل واضح.
كيف ينشأ الحدس؟
يقول العلماء أننا نتعلم بطريقتين:
- بإرادتنا تعلمًا واعيًا.
- وبدون إرادتنا عبر ما نختبره في حياتنا اليومية، وما يصل إلينا من مختلف حواسنا (نشاهد، نسمع، نلمس). يتم اختزان هذا التعليم غير الواعي في ذاكرة خاصة في الدماغ تمدنا بهذا الشعور الغائم الذي نسميه (الحدس).. تعال نتعرف كيف تتم هذه العملية بدقة أكثر(1).
في المنطقة تحت القشرية في الدماغ يقع تركيب مهم يسمى بـ(اللوزة Amygdala). تعمل هذه اللوزة على تخزين الذاكرة العاطفية للأحداث.. إذ يلتقي الواحد منا خلال حياته بآلاف الأشخاص، منهم المخادع والصادق والطيب وغيرهم.. تقوم (اللوزة) بتسجيل صور وتعابير وجوههم، ولغة جسد، وطريقة حديث كل واحد منهم. وفي القادم من الأيام، عندما نقابل شخصًا ما فإن صورة تعابير وجهه ولغة جسده- كسائر المنبهات الأخرى- تمر بشكل تلقائي على منطقة (اللوزة) لعمل تطابق بين هذه المنبهات وبين الذكريات السابقة المختزنة.
وعند أي تطابق بينهما ينبعث فينا شعور غامض مخفف من تلك الذكرى القديمة سلبية كانت أم إيجابية. ومن هنا يأتي الحدس.
استخدامات عديدة
هناك استخدامات عديدة للحدس في حياتنا اليومية. ومنها مثلاً ما يخبرك به المميزون من المديرين والقادة إذ تجدهم يتنبؤون بمستقبل منتج ما أو خدمة ما وهل تستحق الجهد والمال المبذول فيها، حتى لو دلت الأرقام على غير ذلك. هذا ما وضحته الدراسة.
يلعب الحدس دورًا أكبر عندما يأتي إلى التعامل مع الناس وتقييمهم. وتجد مثل هذه الخبرة بشكل كبير لدى القائمين على عملية التوظيف في الشركات إذ إن من المدهش ما أظهرته إحدى الدراسات التي أجريت في جامعة هارفارد(2) أن الحدس الذي استخدمه مجموعة من المتخصصين للحكم على مجموعة أساتذة يقومون بإعطاء درس ما خلال 30 ثانية هو ذات الحكم الذي تبين بعد ربع ساعة وهو ذات الحكم الذي نصل إليه بعد ستة أشهر، وبدقة تصل إلى8٪ !
وتعزز هذه الفكرة بحث قامت به الباحثة النفسية (ناليني أمبادي) حيث وجدت أن ست ثوان هي مدة كافية عند مقابلة شخص غريب لأخذ انطباع حقيقي عن شخصيته، ومدى ميله للانفتاح أو الانكفاء في علاقاته مع الناس. (بما نتعارف عليه بأنه عشري).
ومن جميل ما تقرأه في السنة النبوية ذلك التعريف البديع الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم للإثم حيث يقول: (.. والإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس) حديث صحيح في صحيح الجامع.
تحذير هام..
لاحظ أنه في الدراسة التي ذكرتها سابقًا والتي أجريت في جامعة هارفارد كانت نسبة دقة الحدس هي 80٪ بالنسبة لمتخصصين. وهذا يعني أن 20٪ لم تكن صحيحة وهذا ما يدعوني لأنبه على أهمية الحذر في استخدام الحدس وضرورة فهم منشأه بشكل صحيح وبدون تدخل تأثيرات جانبية. دعني أضرب لذلك مثلاً حتى يتضح المقصود. تخيل أنك مسؤول للتوظيف في مؤسسة ما، وفي مقابلة لتوظيف شخص كفء، شعرت بعدم الارتياح: (لم أحب هذا الرجل.. لا أدري لماذا لم أحبه، لكني لا أحبه!) وهذا قد يؤدي إلى عدم توظيفه، والواقع أن حدسك السلبي هذا قد يكون بسبب أن هذا الشخص يشبه شكل زميل قديم كان قد خذلك في موقف ما أو يشبه طريقته في الحديث! وهذا بالطبع ليس سببًا كافيًا لعدم توظيف من ستستفيد منه مؤسستك. وقد يكون عدم المحبة أثناء المقابلة بسبب أن الشخص أبدى سلوكًا غير مقبول كأن يكون قليل الصبر، أو قليل التحمل للتوجيه.. مما جعلك لا تقبله.. المهم هو فهم لماذا أشعر بهذا الشعور تجاه ذلك الشخص، وتقييم ذلك بشكل حقيقي ومجرد.
كيف تطور من حدسك؟
هذه بعض الطرق المقترحة لتنمية قدرتك على استخدامك لحدسك.. وأريدك أن تتذكر دائمًا أن تقوية الحدس هو مهارة كقيادة السيارة تحتاج منك إلى التدريب والتطوير يومًا بعد يوم، وكلما مارسته أكثر أعطاك نتائج أفضل. كما ينصح العلماء أن يستخدم المبتدئون في تقوية حدسهم.. أن يستخدموه في المواقف قليلة الخطورة وبشكل متوازن إلى أن تقوى هذه المهارة أكثر وأكثر. تابع معي النقاط التالية:
أولاً: كن مرنًا ومنفتحًا لكل الأفكار والاحتمالات واتجاهات التفكير. إن المحرومين من الاستفادة من حدسهم هم أولئك الذين يعتقدون أنهم وصلوا إلى الحل النهائي والفكرة النهائية والقرار النهائي الصائب الذي لا يتخلله أي شك، وبالتالي لن يلقوا أي بال لأي فكرة أو خاطرة جيدة.
ثانيًا: اصرف انتباهك دائمًا إلى تلك الإشارات التي يرسلها حدسك عندما تكون قريبًا من اتخاذ قرار ما أو حدث جديد أو عند التعرف على شخص ما.. راقب أفكارك وخواطرك حتى أحلامك حول هذا الأمر.. لا تهمل أي عرض جسدي طارئ مهما كان خفيفًا. هذه بعض العبارات التي يعبر بها بعض الناس عن الحدس الذي يأتيهم:
- «فجأة برقت صورة كبيرة أمام عيني».
- «سمعت صوتًا داخليًا يخبرني بـ».
- «شعرت بارتياح داخلي ويقين حول هذا الأمر».
- «لا أدري لكني شعرت نفسي مدفوعًا في هذا الاتجاه».
- «شعرت بشيء في صدري يريد الخروج أو يلح علي».
وهكذا العشرات من العبارات التي تعبر عن الحدس والتي تتطلب منا في البداية أن نعطيها انتباهنا.
ثانيًا: اطلب من حدسك المساعدة: فمن الخطأ أن نعتقد أن الحدس يأتي بشكل عفوي، والواقع أن طلب المساعدة قد تمدك بالمزيد من البصيرة التي تحتاجها.
كرر على نفسك: (ما الذي يجب أن أفعله في هذه الوضعية؟)، (ماذا أحتاج أن أعرفه أكثر؟ وأقوم به أكثر؟). لاحظ أنك قد لا تجد الإجابة بشكل مباشر بل قد تأتي على شكل فكرة أو خاطرة بعد فترة وأنت منخرط بعمل آخر بعيد تمامًا عن ذلك الحدث.. وقد يأتي كما هو معروف في الحلم أثناء نومك..!
ثالثًا: عندما تكون على أبواب قرار مهم وبعد أن طلبت من حدسك المدد، خصص ملفًا على كمبيوترك أو دفترًا صغيرًا واكتب فيه كل ما يأتيك من صوت داخلي على شكل أفكار، وخواطر، وصور ذهنية، وأعراض جسدية خفيفة، ومشاعر مختلفة تجاه هذا الحدث أو هذا القرار، واحرص على العودة إليها بين حين وآخر.
صدقني أنك ستندهش من الأفكار التي ستكشف لك أثناء هذه الكتابة وكيف ستحدث فرقًا في فهمك للحدث وبالتالي اتخاذك للقرار الصحيح بعون الله وفضله.
رابعًا: درب حدسك بأن تكرر استخدامه في الحكم على الأشخاص والأحداث، ثم تحقق من صحته، كأن تطلب من شخص لديه اطلاع على الحدث أو معرفة بالشخص بأن يعطيك رأيه حول حدسك (تغذية راجعة) أو اختبر صدق حدسك بما يتكشف لك من نتائج فيما بعد. (شعرت بأن ما يقوله فلان ليس صحيحًا، وهذا ما تبين لي فيما بعد)، أو (كان حدسي خاطئًا حول هذا المشروع فقد ثبت أنه ناجح).
ومن ذلك أيضًا توقع الأحداث مهما كانت صغيرة (من سيكون المتصل الآن على الهاتف؟) أو كبيرة ثم انظر ما مدى صحة توقعك هذا، وابتسم في داخلك عندما تخطئ!
خامسًا: تعرف على نمط حدسك المعتاد والوقت الذي يأتي فيه. إذ إن لكل منا نمطًا خاصًا للحدس كأن يأتيه على شكل صور أو خواطر أو أفكار أو أحلام أو غير ذلك.
سادسًا: اطلب من الله المعونة في حدسك.. الجأ إليه أن يلهمك القرار الصائب والموقف الصحيح. ولست أرى صلاة الاستخارة التي نقوم بها قبل اتخاذ قرار هام أو الدخول في مشروع ما إلا ضربًا من الحدس بمعونة ربانية..!
سابعًا: اقتطع من وقتك أو كل أسبوع ساعة لممارسة الرياضات والنشاطات التي تأخذ طابع التكرار والإيقاعية كالسباحة والمشي ووقت مخصص للتأمل والتفكر حيث تحرر عقلك من التفكير والتحليل فيما يشغل بالك.. وللأسف فإن التأمل والتفكر عبادة مهجورة رغم حث القرآن عليها. مثل هذه الأوقات هي أوقات ذهبية للتواصل مع الذات والاستفادة من الحدس.
ثامنًا: تذكر أن جزءًا من الحدس قد يكون له دوافع خفية ستؤثر حتمًا على صحة هذا الحدس كما شرحت سابقًا.. تأكد وأنت تتفحص حدسك أنه ليس متأثرًا بتجربة سابقة أو بانحياز طبقي أو عرقي أو ديني أو بتجربة عاطفية فهذه العوامل قد تقودك إلى حدس خاطئ.
ختامًا: تذكر أن الحدس هو إشارة أو إنذار كي تقف للحظة وتراجع نفسك أو بريق فكرة تلمع في ذهنك قد تدلك على طريق جديد أو وسيلة مبدعة لكنه في كثير من الأحيان لا يكفي وحده لاتخاذ قرار أو موقف.