أول مهمة للذاكرة هي أن تحصل على انطباع عميق حي للشيء الذي تريد أن تتذكره. ولكي تصل إلى هذا يجب أن تركز... إن ذاكرة تيودور روزفلت المشهورة كان ينطبع عليها كل شخص يقابله، وهو يدين لميزة التركيز هذه بالشيء الكثير، لأن انطباعاته تنعكس على صلب لا على ماء، فقد درب نفسه مستعيناً بالإصرار والممارسة على التركيز حتى في أسوأ الظروف المعاكسة. وفي سنة 1912 كان في شيكاغو لمناسبة عقد أحد المؤتمرات، وكانت هيئة مكتبه بمبنى المؤتمر وجموع الناس تزحم الطريق المار أمام المبني وتصيح ملوحة بالأعلام، وتنادي: (نريد تيدي! نريد تيدي!!) فكانت هناك هتافات الجموع وأصوات فرق الموسيقي وغدو السياسييين ورواحهم، وضجة رجال المؤتمر تكفي لإزعاج الشخص العادي وتشتيت انتباهه.

ولكن روزفلت كان يجلس في غرفته على كرسي هزاز غافلاً عن ذلك كله يقرأ هيرودوت المؤرخ الإغريقي. أما في جولته السياحية في قفار البرازيل، فقد عثر حالما وصل في المساء إلى الساحة التي ضربت فيها الخيام، على بقعة جافة تحت دوحة ضخمة، فأخرج مقعداً من مقاعد الخيام وكتاباً للمؤرخ جيبون بعنوان (تدهور الإمبراطورية الرومانية وسقوطها) وانهمك في قراءته انهماكاً أنساه تساقط المطر وضوضاء المخيم ونشاطه، وأصوات الغابة الاستوائية. فلا غرابة أن يتذكر هذا الرجل كل ما يقرأ.

إن خمس دقائق من التركيز العقلي الحي النشيط تأتي بنتائج أعظم من التفكير الذاهل الموزع لمدة أيام عديدة، ولقد كتب هنري وارد بيتشر في هذا المعنى يقول: (إن ساعة واحدة من التفكير الحاد، خير من سنة كاملة من التفكير الحالم).

وقال يوجين جريس: (إذا كان هناك شيء واحد تعملته أكثر أهمية من سواه، ومارسته كل يوم وفي أي ظرف من الظروف، بل في كل ظرف من الظروف فهو تركيز الفكر في أي عمل تناولته).