نفسٌ لَهْوُهُا التَّعبُ... إدارة الذات!!

عجيب حقًا شأن عقيدة التوحيد حين تستقر في قلب عبد مؤمن، إنها تصنع منه طاقة حية تتفجر بالعطاء والحركة، حتى ما تعود نفسه تطيق استكانة أو قعودًا، تمامًا كما يفعل المغناطيس بقطعة من حديد إذا أُمِرَّ عليها، إنه يعيد ترتيب ذراتها فيصنع منها كيانًا آخر، ذا طاقة مغناطيسية لا تملك إلا أن تعمل عملها الجاذب فيما يحيط بها من مادة، وإن تعجب فعجب خبر أحد أفذاذ هذه الأمة، عمر الفاروق ـ رضي الله عنه ـ انظر إليه وقد أعادت لا إله إلا الله ترتيب ذرات نفسه لتحوله من ذلك الإنسان الجاهلي التافه الذي لا وزن له إلى عملاق فذ نادر لا يكاد الزمان يجود بمثله، بعد أن فجرت هذه العقيدة من ذاته ينابيع الإيجابية والمبادرة، فغدا ذلك الخليفة الراشد الذي فتح الدنيا بهذا الدين:

والزيت أدمٌ له والكوخ مأواه من بأسه

وملوك الروم تخشاه يا من يرى عمرَ تكسوه بردته

يهتز كسرى على كرسيه فرقًا ولوُرَّاث عمر من ناشئة الدعاة

تأتي هذه الحلقة من سلسلة إدارة الذات، لتعينهم على إرساء حجر الأساس لعادات الفاعلية السبع في نفوسهم الوثابة، لخطوة أولى في طريق حيازة الشخصية الربانية الفعالة ذات السمت الإداري الفذ، والمهيأة لحسم الصراع في هذه الجولة الحرجة بين الإسلام وخصومه، فمع أولى عادات الفعالية ممثلة في تنمية الإيجابية وروح المبادرة نعيش على هذه الوريقات، فأعرني بصرك وقلبك يرعاك الله.

القيود الثلاثة:

أتدري أيها الهمام كيف تكونت شخصيتك وآلت إلى ما هي عليه الآن بكل ما فها من إيجابيات وسلبيات؟

تخبرك الدراسات النفسية أن شخصيتك قد تكونت عبر سنوات عمرك نتيجة وقوعك في أسر ثلاثة أنواع من المؤثرات:

1. مؤثرات وراثية:

والتي أثرت فيك عبر الجينات الوراثية التي انتقلت إليك من الأبوين، والتي قد يتجاوز تأثيرها صفاتك الجسمية من طول ووزن ولون وبشرة فيمتد إلى بعض أنواع السلوك: كالانطواء، والعصبية وغيرها.

وقد نتلمح هذا المعنى من ذلك الحديث الضعيف سندًا الصحيح معنى بشاهدي الفطرة واستقراء الواقع 'تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس'.

2. مؤثرات تربوية:

والتي تركت آثارها على شخصيتك عبر الممارسات التربوية الموجهة وغير الموجهة من والديك أو مدرسيك أو أقرانك، ينبيك عنها سيد المربين صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة:

'كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه'.

'المرء على دين خليلة فلينظر أحدكم من يخالل'.

3. مؤثرات بيئية:

ممثلة في كل ما تحويه بيئتك من عوامل اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية، وهو ما نتعلمه من علم النفس القرآني، عند قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى}[يوسف:109]. فاختار سبحانه وتعالى رسله من أهل القرى أي أهل المدائن والأنصار الذين هم أكمل عقولاً وأرق أفئدة وألين أخلاقًا، لا من أهل البادية الذين هم أجفى الناس طباعًا وأخلاقًا كما قرره ابن كثير رحمه الله في تفسيره، ثم أضمم إلى ذلك إشارة نبيك صلى الله عليه وسلم: 'من سكن البادية جفا' يتبين لك عظيم تأثير البيئة في صياغة الشخصية، وباجتماع هذه العوامل الثلاثة:

'الوراثة، التربية، البيئة' فإنها تشكل قيودًا نفسية تحدد استجابة كل شخصية للمؤثرات المختلفة، بحيث تختلف ردود أفعال كل شخصية تجاه أي مؤثر تبعًا لدرجة تأثير هذه العوامل فيها.

· أخي أنت حر بتلك القيود:

ولئن جعلت مدارس علم النفس الغربية من تلك القيود الثلاثة قفصًا حديديًا لا يملك الإنسان خروجًا من أسره عبر نظرية الجبرية النفسية، إلا أن للسيد رأيًا آخر يرسله إليك عبر هذا النداء الحازم الرقراق:

· أخي أنت حر بتلك القيود:

نعم أيها الهمام أنت بالفعل حر، سليل أحرار كماة، أعطاك الله عقلاً راشدًا قد استنار بنور الوحي فغدا بملك فرقانًا يغرق به بين الحق والباطل، ولئن وقع أغلب الناس أسارى لتلك القيود، فحكمت ردود أفعالهم تجاه ما يتعرضون له من مؤثرات، فإن الداعية الإيجابي الذي غذى قلبه بلَبَان هذه العقيدة يأبى إلا أن يختار ردود أفعاله بنفسه وفق مبادئه وقيمه التي استقاها من هذا الدين.

وتلك هي الحقيقة الإيجابية وجوهرها، أن تختار مواقفك وتصرفاتك وأفعالك وفق ما تعتقده لا وفق ما تمليه عليه القيود الثلاثية، وأما السلبي الذي لم يرق بعد إلى مستوى هذه العقيدة فيتعلل ويبرر، ويتوانى ويعجز، ولن يعدم حيلة يخدع بها نفسه ويبرر بها عجزه وكسله، وله في تلك القيود الثلاثة متسع وأي متسع، وتأمل معي هذا المثال عن واقع شباب الصحوة ليتبين لك الفرق جليًا بين اثنين من ناشئة الدعاة، قد وقع كلاهما في مشكلة إصابة القلب بسهام الشيطان عبر استراق النظر إلى ما حرم الله، أما السلبي الذي ما ثبتت بعد أوتاد العقيدة في أرض قلبه، فينظر إلى صغر المعصية ولا ينظر إلى عظمة من عصاه، ويبرر لنفسه واقعها بفساد المجتمع وكثرة الفتن والمغريات، وكيف أنه تربى في بيت لا تطفأ فيه شاشة التلفاز، ووسط أبوين من ذوي الأعين الخائنة، وقصارى جهده استغفار سطحي أو توبة معلولة، وأما الهمام الموفق ذو السمت الإيجابي الفذ فيقر بخطئه، ويعلم أن إبليس قد هزمه في تلك الجولة، وينهض بهمة وحزم عازمًا على الاستدراك، فيقبل على نفسه باللوم والتقريع، ثم يجأر إلى ربه باكيًا تائبًا، وينتصب في شمم ليكمل الصراع، ويختار لرد فعله بإيجابية واقتدار ليواجه من بعد أخوات امرأة العزيز، مجددًا سمت يوسف عليه السلام:{قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23[

ـ استعلاء الإيمان:

وإنما هو الإيمان يعينه سيد مصدرًا لهذه الحرية التي يملك بها المؤمن قدرته على الاختيار، واستعلائه على أسر القيود الثلاثة.

ولقد هام الغربيون حول هذا المعنى وحاولوا الاقتراب منه تحت مسمى الضمير تارة أو الإدراك الواعي تارة أخرى أو الإرادة المستقلة تارة ثالثة، أما كتاب الله عز وجل، فقد أصاب كبد الحقيقة مباشرة حين قررها خالق الذات الإنسانية جل وعلا في قوله: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139[

فما تستطيع أبدًا كل قيود الوراثة والتربية والبيئة أن تجبر الداعية على هون أو حزن أو منعة، مهما بلغت ظروف العزيمة والاستضعاف من حوله.

كيف وقد اشتعلت في قلبه جذوة الإيمان فأمدته بعزيمة صلبة ماضية تأبى عليه إلا أن ينتصب مراغمًا للشيطان وحزبه رغم كل ظروف القهر والاستبداد.

فبالإيمان بالله عز وجل وحده يكسر الإنسان تلك القيود الثلاثية ويعتق نفسه من أسرها ويعود حرًا إيجابيًا سيد قراره كما أراد له خالقه وباريه.



وانظر تصديق هذه الحقيقة الناصعة في ذلك النموذج القرآني الفريد الذي قصه الله جل وعلا عليك في كتابه غير ما مرة، انظر لسحرة فرعون، هذه الثلة التي تعرضت ضمن شعبها لأبشع مؤثرات تربية العبيد، إنها التربية الفرعونية التي تمسخ فطرة الإنسان وتحوله إلى عبد ذليل مقهور لا يملك قراره، تربية عنوانها {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعـات:24]. ومنهجها:{أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51]، وبرامجها: {مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29[

تربية أنشأت عبيدًا للدنيا، أقصى ما تطمح إليه نفوسهم أن ينالوا من الطاغوت أجرًا لقاء حرب أولياء الله: {أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:41[

ثم تأمل بعد أن اتقدت في قلوبهم جذوة الإيمان، فسجدوا سجدة الحرية، وانعتقت نفوسهم من أسر القيود الثلاثة، فقاموا يعلنونها مدوية: {آمَنَّا برَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [لأعراف:122[

ويحاول الطاغية بهذا المؤثر أن يستثير فيهم كوامن الذل والاستخزاء: {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ[124]فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى} [طـه:71]، وإذ برد الفعل الإيجابي الفذ يفجأ الطاغوت: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طـه:72[

وما كنت آثار سنين طوال من قيود الوراثة والتربية والبيئة أن تصمد أبدًا مهما بلغت قوتها أمام لحظة إيمان صادق يعيشها قلب عبد مؤمن.

· استراتيجية الشموع:

وتأبى بذرة الإيجابية في نفس الداعية ـ بعد إذ رويت بماء الإيمان ـ إلا أن تنبت من ثمار الحركة والفاعلية كل زوج بهيج، وتكون درة هذه الثمار ظهور روح المبادأة والمبادرة للأخذ بزمام الأمور، فلئن كانت القدرة على اختيار الأفعال وفق المبادئ والقيم بعد الانعتاق من أسر القيود الثلاثة هو ركن الإيجابية الأول، فإن روح المبادرة والإمساك بزمام الأمور هو الركن الثاني المتمم لمنظومة الإيجابية، ويعني بوضوح شديد واختصار أن تكون فاعلاً أيها الداعية لا مفعولاً به، أن تعد نفسك مسئولاً عن إحداث الأشياء بدلاً من انتظار حدوثها، أن تنشئ أنت الأفعال ولا تقتصر على اختيار ردودها أن تتعامل مع الواقع باستراتيجية ثابتة عنوانها: 'إضاءة شمعة بدلاً من لعن الظلام'.

وتعلم هذه الروح من أبى بصير رضي الله عنه ذلك الإيجابي الفعال الذي جاء مؤمنًا مهاجرًا إلى ركب الإيمان يبغي أن يكون أحد جنوده، ويضطر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرده وفاءً لعهده مع المشركين، ولكن بناء الإيجابية الذي اكتملت أركانه في ذات أبي بصير يأبى عليه إلا اتباعًا فوريًا لاستراتيجية الشموع، فيعسكر رضي الله عنه ـ في سيف البحر ويضم إليه إخوانه من المؤمنين الجدد، ويصنع منهم كتيبة من كتائب الإيمان، ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلا اعترضوها فقتلوا رجالها واستولوا على أموالها، حتى أرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده أن يضم إليه هذه الكتيبة في مدينة الإيمان.

أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع

· المؤمن المتفرد:

وقد تبلغ هذه العقيدة بإيجابية الداعية مبلغًا لم يطمح إليه الغربيون، فيروح يبتدع لها ركنًا ثالثًا عنوانه: 'وجدان راحة النفس ولهوها في النصب والتعب'. وبذا يستحق وصفًا راقيًا متفردًا وصف به البحتري ممدوحه حين قال:

قلب يطل على أفكاره ويد قضى الأمور ونفس لهوها التعب



كمثل نفس صلاح الدين الذي مكث أسبوعين كاملين على فرسه يعد جحافل الإيمان لمعركة حطين الفاصلة، فلما ألحوا عليه أن ينزل من على فرسه ليستريح، إذ به يشعر بالتعب على فراشه، وسرعان ما يعود إلى ظهر جواده يطلب إجمام نفسه بالنصب في سبيل الله.

· كل إناء بما فيه ينضح:

ولئن أردت أيها الهمام أن تبين مواطن قدميك، وتعلم أين أنت من هذا السمت الإيمان الفذ الذي اكتملت في صاحبه أركان الإيجابية، فإننا ندعوك إلى أن تصغي إلى لغتك الخاصة لمدة أسبوع كامل، ولترى طبيعة ما يصدر منك من ألفاظ طوال هذه المدة، وبخاصة في تلك المواقف التي تتطلب منك اتخاذ إجراء بشأنها، ثم أعرض نفسك على هذه المقارنة لتعلم أي الرجلين أنت:

لغة المبادر الإيجابي لغة العاجز السلبي

1. دعنا نتدبر البدائل التي أمامنا لا أستطيع أن أفعل شيئًا حيال ذلك

2. يمكنني أن أجرب أسلوبًا آخر هذه شخصيتي ولا أستطيع تغييرها

3. أستطيع أن أتحكم في مشاعري وردود أفعالي لقد أطار صوابي بأفعاله

4. سوف أبذل قصارى جهدي في أن أكون متميزًا لن يسمحوا لي أبدًا بأن أكون متميزًا

5. سوف أختار رد الفعل المناسب للموقف عليَّ أن أفعل ذلك

6. يمكنني أن أختار لا أستطيع

7. أفضل أن أفعل كذا لابد أن أفعل كذا

8. سوف أفعل كذا لو كان الأمر بيدي

· فراق إلى لقاء:

وأخيرًا: أيها الهمام وليس آخرًا، فقد بسطت لك القول في هذه الحلقة، واستطردتُ معك في وصف صورة صاحب السمت الإيجابي الفذ، وبيان الأركان الثلاثة لمنظومة الإيجابية، عسى أن يتضح أمام ناظريك الهدف، وتثور فيك كوامن الشوق للانضمام إلى قافلة تلك النفوس العالية التي لهوها التعب في سبيل الله، فإن تاقت نفسك إلى هذا المرتقى المنشود، فأبشر، فهذه أولى أمارات الفلاح بإذن الله، وانتظر لقائي معك في الحلقة القادمة أهديك فيها بإذن الله برنامجًا عمليًا يبين لك الطريق نحو حيازة هذا السمت المتفرد.

حدا بك حادي الشوق فاطو المراحلاودعه فإن العزم يكفيك حاملاً فحيهلا إن كنت ذا همة فقدولا تنتظر بالسير رفقة قاعدٍ

وإلى أن ألقاك على خير بإذن الله، فلك مني سلام الله وعليك رحمته وبركاته,,