هل يتعلّم الدماغ البشري اليقظة والانتباه؟
د. سعادة خليل

إن الإجابة المباشرة على هذا السؤال هي "نعم". إن العديد من المدرسين والتربويين لا يعرفون بأن الانتباه واليقظة عبارة عن مهارة يمكن تعلّمها بل أن أكثرهم يعتقدون بأن الانتباه هو سلعة تباع وتشترى. إن الانتباه اكثر من ذلك بكثير. إن سيكلوجية الانتباه وآثاره النفسية هي البوابه الرئيسة للتركيز على التعلم. ومن المستحيل تعلم شيء ما دونما نعير كل انتباهنا له. وإلاّ لماذا ننتبه أصلا لشيء لا نعتبره مهما؟
إن العديد من الأمراض النفسية والعقلية التي يواجهها الناس في جميع مراحل العمر ، كالإصابة بالتوحد Autism أو بمرض ألزايمر Alzheimer إنما هي عبارة عن اضطرابات في الانتباه في بعض المستويات. وبالمثل ، عدم الانتباه يؤدي إلى حوادث متعددة كالحوادث وإساءة السلوك داخل الصف الدراسي والنزاع والاختلاف مع الآخرين وإلى مجموعة كبيرة أخرى من المشاكل. خلاصة القول إن الانتباه الفعال أمر أساسي لنوعية الحياة التي ننشدها.
إن التقدم الكبير في تكنولوجيا التصوير العصبي neuroimaging يتيح لنا ملاحطة وكشف نشاط أنظمة المعرفة وعملياتها (كالانتباه مثلا) في مستويات تتعدى تصور وخيال العلماء الأوائل. وهذه الاكتشافات الجديدة تستطيع تشكيل السياسات التعليمية وكيفية ممارستها ولكن فقط إذا استطاع المعلمون والتربويون استيعاب وفهم تنظيم الدماغ ونموه وتطوره.
لقد تعاون مايكل بوزنر و ماري روثبارت Posner and Rothbart ، الباحثان المميزان في مجال الانتباه ونموه، على وضع كتاب تعليم العقل البشري (2007). وهوكتاب هام جدا ومفيد ويركز أساسا على نظام الانتباه وعلى القدرات الإنمائية له.
يقول المؤلفان على الرغم من أن الانتباه هو ملكة فطرية للدماغ ، إلا أنه يمكن للتعليم المركز والجيد أن يحسن من عناصره الشعورية المضبوطة. إن الحضور الفعال للانتباه يضمن رد فعل إيجابي ، ولكن حضوره غيرالمناسب يؤدي عادة إلى رد فعل سلبي. إن تطوير نظام انتباه متين هو خطوة أولى حاسمة في تطور فعال لحل المشاكل والرد على المهارات.
وبالمثل إن معرفة كيف يعمل أي نظام معرفي لا يمكن أن يضمن قدرة المعلمين والتربويين على تحسين أداء هذا النظام. إن فهم الانتباه وأنظمة الدماغ الأخرى هي خطوة أولى على المعلمين الأخذ بها من أجل تحسين القدرات المعرفيه للطلاب. لقد اصبح فهم الانتباه المعرفة الأساسية، التي بدأت في الظهور، لمعلمي ومربي القرن الحادي والعشرين الذين يناط إليهم مهمة تنفيذ التدخلات التعليمية المحكومة بيولوجيا.
إن كتاب بوزنر و روثبارت Posner and Rothbart يتطلب من القراء محدودي الفهم لعلم الاعصاب الحيوي والدماغ وأنظمته وعملياته الكثير من الجهد. وما يسرّ فعلا هو وجود عدد متزايد من المعلمين يمكنهم الآن مهنيا استيعاب وفهم الاكتشافات المثيرة للبحوث وتدخلات التعليم التي يصفها بوزنر و روثبارت. ونصيحتي للبقية هي أن يكونوا على علم بذلك أيضا، لأن الاكتشافات العصبية الحيوية ستسيطر على السياسة التعليمية وممارستها في القرن الحادي العشرين.
يبدأ الكتاب بشرح شيق كيف أن الأبحاث البيولوجية اصبحت عاملا أساسيا في فهمنا لعملية التعلم والتعليم. إن البحث المتميز والمهنية التي يتمتع بها المؤلفان يعطيهما المصداقيه التي لا يمكن أن تأتي إلا من أشخاص ارتبطوا فعلا بظهور علم الإعصاب الإدراكي.
يركز الكتاب على القوى المحركه لثلاث شبكات لتنظيم الانتباه :

(1) شبكة التنبيه التي تعد الفرد للحصول على معلومات جديدة وتحافظ على المستوى اللازم من اليقظه ،
(2) شبكة التوجيه التي تحول التركيزالحالي إلى ما قد يعتبر أكثر أهمية ،
(3) شبكة التنفيذ التي تعتمد بصورة كبيرة على الذاكرة للتعرف على ماهية أو هوية التحدي الجديد، ولتحديد اهميتها ، ولتفصلها عن خلفية المعلومات (التي بعد ذلك هي مجرد مراقبة أو متجاهلة). ولأنه في الغالب ليس واضحا ما إذا كان التحدي خطرا او فرصة مواتية او أي عدد من التحديات الحالية أكثر أهمية ، وهذه الشبكه حاسمة وهامة لحل هذه الالتباسات. فشبكة تنفيذ معطلة قد تحاول حل المشكلة الخطأ ، أو حل المشاكل التي لا تفهمها. يحدث هذا الخطأ على جميع المستويات.

إن تطور التنظيم الواعي من المشاعر والأفكار والسلوك (وهو ما يفعله الانتباه) يتأثر بعناصر كالمزاج والبيئة التي يعيش فيها الطفل- والكتاب يناقش هذه العوامل بطريقة مفيدة جدا للمعلمين والآباء.
يختلف الأطفال في اختيارات سيكلوجيه الانتباه والقدرة على تنظيم الانتباه. سيكون عالم غريب لو كنا جميعا ثقافيا وبشكل ادراكي مستنسخين ، ولنا نفس المصالح والقدرات نفسها.وهكذا جل الفروقات الفردية التي تواجه المعلمين هي التحدي ، ولكن الشكوى من هذه الفروقات هي كحارس البناية الذي يشكو من قذارة طوابق البناية. إن تنوع الانسان يحدد مهماتنا.

يقدم الكتاب شرحا ممتازا لأصول علم الأحياء العصبي الأساس للغة المكتوبة والمحكية وللحساب. في إطار هذه المناقشه ، يصف المؤلفان أنواع التدخلات التي تبشر بالفعل بتحسين قدرات الانتباه للأطفال والشباب، لذلك لن تعوقهم مطالب المدرسة ومنهاجها في الانتباه . إن إنفجار التطورات الجديدة المصاحبة لتكنولوجيا الحاسوب وألعاب الفيديو يلعب دورا هاما فى تطوير التدريب الفعال والمناسب للتدخلات.
إن كتاب تعليم العقل البشري غني بالمعلومات ومتفائل جدا بالنسبة لأولئك الذين لديهم فهم أساسي للدماغ وأنظمته العملياتية. إنه يتوقع مستقبلا باهرا حيث يتم فيه حل العديد من المشاكل التي تصادف المربين والآباء.
لقد علق عالم الأعصاب الشهير (مايكل غازانيغا) Michael Gazzaniga على الكتاب قائلا: "إن أي شخص يعتقد أن علم الأعصاب ليس مستعدا بعد لمجال التعليم، الأفضل له أن يقرأ هذا الكتاب." إن كتاب بوزنر و روثبارت Posner and Rothbart يقدم معلومات منطقية هي في متناول الجميع سيكون لها الأثر الكبير والعميق على ما يجري في الصف الدراسي لعقود قادمة.