عضو مميز
- معدل تقييم المستوى
- 32
التوجيهات الإسلامية للصحة النفسية للمسنين
تهدف الصحة النفسية تطبيقياً إلى الوقاية من الاضطرابات النفسية أولاً ، وعلاج الاضطرابات النفسية والمحافظة على استمرار الصحة والتكيف الأفضل ثانياً . وفي الجانب الأول نعمل على تحديد الجوانب التي يمكن أن تسبب الاضطرابات ، ثم نعمل على إزالتها وإبعاد الأفراد عنها مع توفير الشروط العامة التي تعطي الفرد قوة عملية لمواجهة الظروف الصعبة . وفي الجانب الثاني تقوم المؤسسات المتخصصة بدعم الفرد من جهة ، وعلاج مشكلاته النفسية التي يمكن أن توجد لديه من الجهة الثانية ، ثم مرافقته لخطوات من أجل التأكد من حسن عودته إلى أسلم وضع وإلى انتظام ذلك في شروط الحياة المختلفة .
وهذا ما يدفعنا كعاملين في مجال الصحة النفسية للعناية بالفرد والعناية بالبيئات المختلفة شديدة الالتصاق به . وفي مجال المسنين فإن الشيخوخة تقترن بالاستهلاك التدريجي للأعضاء والتغيرات الحيوية التي تطرأ على الجسم والتي ترافق الشيخوخة وهكذا فإنه من الطبيعي أن يحدث هذا التدهور في استهلاك العضلات كمرحلة من مراحل الحياة . قال تعالى ( الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة يخلق الله ما يشاء وهو العليم القدير ) (سورة الروم 54) .
وتحتاج حدمات الصحة النفسية للمسنين لحسن التوجيه نفسياً ومهنياً واجتماعياً للوقاية من مشكلات منظورة قبل وقوعها أو لعلاج مشكلات قائمة يعاني منها المسنون. ولابد لنا في البداية من معرفة مميزات الحياة النفسية للمسن وهي كما يلي :
أهم جوانب حياة المسن ومميزاتها :
1- قد تمتد فترة الشيخوخة عشرات السنين ولذلك أثره في حياة الفرد ومن حوله من معارف وأصدقاء وأهل .. قال صلى الله عليه وسلم " خيركم من طال عمره وحسن عمله .. وشركم من طال عمره وساء عمله " .
2- يعاني المسن من ضعف جسمي عام في الإحساس والعضلات والعظام والنشاط الجسمي الداخلي ( هضمي وبولي ودموي وجلدي ) وضعف عام في النضارة .. وبدء ظهور الترهلات . وأعراض الشيخوخة هذه تظهر على كل إنسان ..
3- نضوج علمي وغزارة وثراء فكري ، حيث أن أكابر العلماء خير إنتاجهم الفكري في هذه المرحلة ( ما بعد الستين ) ويكون لدى المسن أيضاً ثراء شخصي بالخبرة الذاتية مع الآخرين حيث يفهم الحياة فهماً واقعياً ويدرك الحياة بعيداً عن الخيال وبواقعية عملية .
4- معاناة صحية في تناوب مع المتاعب المرضية ، ويتطلب ذلك عناية صحية متواصلة ودقيقة .
5- صلابة نفسية واجتماعية في الاتجاهات ، يصعب معها التكيف والتوافق النفسي للمسن مع مستجدات الحياة وما تتطلبه من علاقات وأنماط سلوكية جديدة مع عدة أجيال مما يجعله يعاني من صعوبات التوافق الضروري للحياة الهادئة . قال تعالى ( ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون ) (يس68) .
6- يرى المسن نفسه إما متخوفاً من الوصول للشيخوخة أو منكراً لها ولا يعطي لها بالاً في تصرفاته ، وكلما تقدم به السن شعر بالعجز أكثر ويحدث ذلك في المجتمعات الغربية حيث يرى المسن نفسه قد وصل لمرحلة سلبية في حياته وذلك نتيجة لطبيعة العلاقات الاجتماعية المفككة ، والروابط العائلية الضعيفة . وبالنسبة ٍإليهم فإن مشكلة سن التقاعد قد خلقت مشاكل جديدة تتعلق بتحقيق الذات ، وبحقوقهم كبشر وفي شعورهم بتدني المستوى المعيشي ، وعدم ملائمته لصحتهم ورفاهيتهم ، ولصحة ورفاهية أسرهم وأيضاً لزيادة الحاجة إلى الرعاية الصحية والطبية والاجتماعية والنفسية ويرافق ذلك شعورهم بعدم الأمان بسبب تقدم السن وكل ذلك يساهم في نشوء مشكلات المسنين . أما في مجتمعاتنا الأكثر التزاماً بالنواحي الدينية فإننا نجد أن كبر السن يصاحبه ارتفاع في المكانة ويعامل المسن بالتبجيل والاحترام والتوقير .. قال صلى الله عليه وسلم ٍ" ليس منا من لم يرحم صغيرنا ولم يوقر كبيرنا " ( رواه الترمذي ) .
ومن ناحية أخرى يؤدي الإنقطاع عن العمل في عصرنا الراهن إلى زيادة النظر للشيخوخة بوصفها مشكلة نفسية واجتماعية حيث أن التوقف عن العمل يتضمن انقطاع أدوار اجتماعية هامة ، وتقلصاً في الدخل وتقليلاً في فرص الاتصالات الاجتماعية ، وزيادة في الوحدة والفراغ وهذا ما توصل إليه العلماء عموماً بأن التقاعد هو أمر سلبي .
أهم مشكلات المعمرين :
لا يتعرض كل مسن لمشكلات . والمشكلات نفسها متنوعة ومنها البسيط العابر أو الطارئ الذي يزول بالعلاج . وعدد كبير من المسنين عرضة لمشكلات مزمنة ولابد لهم من معايشتها بصبر وهدوء للتخفيف من أضرارها . قال صلى الله عليه وسلم للأعراب عندما سألوه فقالوا يا رسول الله أنتداوى ؟ .. فقال صلى الله عليه وسلم " نعم يا عباد الله تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء غير داء واحد ) قالوا ما هو ؟ قال ( الهرم ) ( أخرجه الترمذي وأحمد في مسنده ) .
· والمشكلات يمكن أن تكون انفعالية وجدانية كالشعور بالفشل أو الاحباط مما يؤدي إلى أن تغلب على هؤلاء روح التشاؤم . وقد يصل ببعضهم إلى الشك بأقرب المقربين إليهم . ويكون سلوكهم متسماً بالشك والحذر والحساسية والتأثر الانفعالي ( قد يتزوج المسن ممن هي في سن بناته ويتصابى وعند عجزه يتهمها ويشك بها وبهذا لا يوقر نفسه ) قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي " يا ابن آدم الشيب نور من نوري وإني أستحي أن أعذب نوري بناري فاستحي مني".
· وهناك مشكلات ذهنية فكرية وذلك نتيجة لضعف الحواس وضعف الانتباه وعدم القدرة على التركيز ، مما يضعف المدركات بالإضافة إلى ضيق الاهتمام وإلى ضعف الذاكرة وتشتتها وسرعة النسيان مما يجعل الفرد يتمركز بشكل محوري في تفكيره حول شيء مما يبدو شبيهاً بالوسوسة أو الهلوسة . قال تعالى : يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ) ( الحج 5) .
· وأما المشكلات الصحية فإن أمراض الشيخوخة تعتبر أكثر خطورة لضعف مقاومة الجسم لدى المسن وشدة تأثره وضعفه مما يقلل فرص إجراء جراحات ضرورية لصحته . كما أن ضعف الجسم عموماً يظهر لديه أمراضاً ومشكلات جسدية مثل أمراض القلب والشرايين وهشاشة العظام والكسور والأمراض الجلدية والحسية . وغيرها وقد يظهر لدى المريض توهم بالأمراض وتركيز زائد على الصحة حيث ينظر للعرض البسيط بأنه خطير . قال تعالى ( قال ربي إن وهن العظم منى واشتعل الرأس شيباً ) (مريم4 ) .
· وهناك مشكلات اقتصادية يعاني منها المسنون لنقص مواردهم المالية ، ولضعف الأداء لديهم ، أو للتقاعد ، أو لترك العمل ، وهذا في حد ذاته مشكلة نفسية واجتماعية وصحية واقتصادية بأبعادها المؤثرة والمتأثرة .
· وأما المشكلات الاجتماعية فإن ازدياد العمر يقلل من الأصدقاء بسبب تفرقهم إما بالبعد أو بالوفاة أو بالسفر . وكذلك الأولاد لانهماكهم بشؤون الحياة . وأما شريك الحياة الزوجية فقد يتوفى وبالتالي يظل المسن يعاني من الوحدة وآثارها النفسية . وكذلك فإن عدداً غير قليل من المسنين يعاني من الصلابة الاجتماعية لصعوبة تكيفه وتبنيه لأنماط جديدة في السلوك والتفكير .
الوقاية من مشكلات الشيخوخة وعلاجها :
لقد سبق الإسلام بوضع الاجراءات الوقائية من مشكلات الشيخوخة وأولاها اهتمامه . قال الرسول صلى الله عليه وسلم " اغتنم خمساً قبل خمس حياتك قبل موتك ، وصحتك قبل سقمك ، وفراغك قبل شغلك ، وشبابك قبل هرمك ، وغناك قبل فقرك " .
كما أوجب الإسلام على الأولاد بر الوالدين والإحسان إليهم ورسخه في نفوس الأمة . والتركيز على ذلك يساعد في الوقاية من بعض المشاكل النفسية للمعمر ، قال تعالى ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً . واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً ) (الإسراء 23- 24 ) .
كما أوجب الإسلام احترام وتوقير كبار السن وحث عليه قال صلى الله عليه وسلم " ما أكرم شاب شيخاً من أجل سنه إلا قيض الله له عند سنه من يكرمه ( رواه الترمذي ) .. وقال صلى الله عليه وسلم " إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم " ( رواه أبو داوود والبيهقي ) . وقال صلى الله عليه وسلم " ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا ويأمر بالمعروف وينه عن المنكر " ( رواه الترمذي ) .
كما أوجب الإسلام الرعاية الصحية بالفحص الطبي والدوري للكشف عن أي مشكلات صحية في بدايتها ، وقبل استفحالها ، والوقاية من العدوى ، والاهتمام الصحي الجيد والوقاية من المرض بشكل أكبر عند المسن وذلك لنقص وضعف مقاومته . قال صلى الله عليه وسلم " يا عباد الله تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء " .
ويجب رعاية المسن والاهتمام به أولاً بأول في حل المشكلات أو إشباع الحاجات ، ولابد من عمل برنامج نشاط حركي جسمي وذهني عقلي له لمساعدته على روح التفاؤل ليعيش شيخوخته بأوسع وأكمل شيء ممكن . ولابد من الاهتمام بالعمر العقلي ومراعاته وكذلك العمر التحصيلي والمستوى الفسيولوجي والانفعالي والاجتماعي والجنسي فالشيخوخة لا تعد بالعمر الزمني فقط .
ويجب تشجيع المسن على البحث والاطلاع حتى نبقي ذاكرته متنبهة ، ونشجعه على تحديد أهداف للمستقبل يسعى لتحقيقها ، ونحثه على السعي لذلك . قال صلى الله عليه وسلم " خيركم من طال عمره وحسن عمله " . وقال صلى الله عليه وسلم " إذا قامت قيامة أحدكم وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها " .
ويجب الاهتمام بالتوافق الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية بين المتكافئين سناً وثقافة ، حتى يشتركوا في الاتجاهات والاهتمامات ، مع التركيز على الهوايات المفيدة والرياضة الخفيفة ( مثل المشي ) والاهتمام بالهندام العام . وكذلك تنمية العلاقات بأفراد الأجيال الأخرى لضرورة امتزاج الأجيال ، ولأهمية النماذج الصالحة في نقل الثقافات والحضارات عبر المسن . فمن المفاهيم الإسلامية التي تساعد المسن على حياته بر الأبناء وبر أبناء الأصحاب ورعاية الأطفال ، التي سبق وحث عليها الإسلام ، حيث جاء في الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " إم من أبر البر صلة الرجل ود أبيه بعد أن يولي " ( رواه مسلم ) .
ويحتاج المسن إلى ضمان مالي ، وصحي ، وهو من الوفاء للأفراد الذين قدموا لوطنهم الكثير ، ولحفظ كرامتهم وودهم . قال صلى الله عليه وسلم " إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم " ( رواه أبو داوود والبيهقي ) .
والمسن هو في مرحلة عمرية قريبة من الآخرة ، ولابد له من التعامل بواقعية وأن يكون نموذجاً يحتذى ، وأن يبعد عن السلوكيات السيئة . وعليه أن يتعظ من شيبته ويجعلها مذكراً له ، ففي الأثر ( كفى بالشيب واعظاً يا عمر ) . وعن أنس بن مالك مرفوعاً قال ( المولود حتى يبلغ الحنث ما عمل حسنة كتب لوالده أو لوالديه ، وما عمل من سيئة لم تكتب عليه ولا على والديه ، فإذا بلغ الحنث جرى عليه القلم ، وأمر الملكان اللذان معه أن يحفظا وأن يشددا . فإذا بلغ أربعين سنة في الإسلام أمنه الله من البلايا الثلاث الجنون والجذام والبرص ، فإذا بلغ الخمسين خفف الله من حسابه ، فإذا بلغ الستين رزقه الله الإنابة إليه بما يحب ، فإذا بلغ السبعين أحبه أهل السماء فإذا بلغ الثمانين كتب الله له حسناته وتجاوز عن سيئاته ، فإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وشفعه في أهل بيته ، وكان أسير الله في أرضه ، فإذا بلغ أرذل العمر كي لا يعلم بعد علم شيئاً كتب الله له مثل ما كان يعمل في صحته من الخير فإذا عمل سيئة لم تكتب عليه ) (رواه أبو يعلي في مسنده ) وفي الحديث الذي سبق وأن أوردناه أن رجلاً قال يا رسول الله أي الناس خير ؟ قال " من طال عمره وحسن عمله " قال فأي الناس شر ؟ قال من طال عمره وساء عمله " .
ويشمل علاج مشكلات الشيخوخة العلاج الطبي والعلاج النفسي ويهدف هذا الأخير إلى تحقيق الأمن النفسي والانفعالي ، وإشباع الحاجات ، وتحقيق عزة النفس . وشعوره بالحب وأنه مطلوب من أهله ، وإقناعه بالتعايش بما تبقى له من قوى لإسعاد نفسه ، في الحدود الجديدة التي يستطيع أن يعيشها ، ويفيد في ذلك العلاج بالعمل وهذا يتطلب إرشاد المسن مهنياً وأسرياً مع الاهتمام لملئ وقت الفراغ وأهميته . وتوجيهه إلى مؤسسات تساعد على رعاية المسنين . كما أن من المهم العلاج البيئي وذلك بتنمية اهتماماته وميوله ، وذلك بوسائل التسلية وبدفعه للمشاركة الاجتماعية بتأهيله نفسيا واجتماعياً مما يساعده بتحقيق التوافق النفسي ، ويفيد في ذلك الورش والنوادي التي تعد خصيصاً للتغلب على مشكلة التقاعد التي أصبحت في عصرنا الراهن تشكل تعطيلاً لـ 14% من سكان العالم .
والنظام الاجتماعي في حياة المسلم كفل حل مثل هذه المشكلة ، لأنه كفل الحياة الكريمة للمعمر ، من الناحية الاقتصادية عن طريق الأوقاف ، والاجتماعية ببناء العلاقات ، والصحبة بالمداواة والمداراة ، والنفسية بحفظ كرامته وشعوره بأهميته في هذه الحياة . حيث أن المسن باق بشكل محترم ومكرم بين أهله وذويه ويكون نموذجاً يحتذى في السلوك للأجيال داخل داخل هذه الأسر ، ويكون ناقلاً للقيم والثقافة بين الأجيال ، بحيث يعيش حياته متوافقاً مع ظروفة الصحية ، ومتعايشاً معها ، ومستفيداً من طاقاته النفسية والعقلية ، وآمناً من الناحية الاجتماعية ، ومنتجاً ومنمياً لعلاقات جديدة بناءة . ومفيداً في حكمته وخبرته للمجتمع بجميع شرائحه . وفي الثقافة الإسلامية أعطى الإسلام نماذج لرعاية المسنين ولم يربط الأمر بسن معين فلقد أشار القرآن الكريم إلى أنبياء تقدمت بهم السن كإبراهيم عليه السلام وزكريا ونوح عليهم السلام . وأشار التاريخ لعدد من الصحابة الذين ظلوا في حالة عطاء حتى آخر لحظة أمثال أنس بن مالك وأسماء بنت أبي بكر وغيرهم . وهناك أمثلة لعدة أوقاف اجتماعية إسلامية لخدمة المسنين ولحفظ كرامتهم وللإستفادة منهم وللوفاء لهم .
المفضلات