يغزو الأدب العقول، فتغدو بركته إضاءة، تشع النور في القلوب وتبحر بالمشاعر نحو آفاق السمو، فيرفع القدر بإزالة الجهل، ويهذب السلوك بمحاكاته الرؤومة، وعذوبة انسياب ينابيعه المتدفقة لتملأ الوجدان رقة، فيأسر القلوب بمنطقه، وتنصاع الجوارح لتعانق جمال مآثره، لتنعكس بصماته الجميلة الوضاءة، علي كل من ألفه، واحتفي به، ذلك أنه يحدد ملامح الارتقاء بدقة، لاسيما فيما يتعلق بالسلوك علي ضوء تحديداته المتقنة وتصويباته المبهرة، والاتسام بالأدب يعني التخلق به، ويعني كذلك مراعاة التوقيت في الأفعال وردودها، وفي الأقوال وحدودها، والأدب والالتزام بالقيم متلازمان، في تكامل منهجي وموضوعي في إطار الاعتناء بالروح وتهذيبها، وكبح عناء انتفاء استقرارها، لكي تطمئن وتسكن، والتحلي بالصبر يمر عبر مقاييس الأدب الدقيقة، ويعزز من اتساق السلوك مع المفهوم، وتطابق التصرف مع المضمون، ويحيد البعض عن هذا السياق، حينما تكون المقاطعة شعوراً يتلذذ به المُقاطع، ويشمئز وينفر منه المتكلم، وفي هذه اللحظة يحلق المُقاطع بعيداً، ويخرج من مدار الأدب، نتيجة لتسرعه من جهة وخروج مشاعره من دائرة الانضباط، طبقاً لغياب التفاعل مع الصبر والانسجام مع مراعاة أحاسيس الآخرين من جهة أخري.

فعلي سبيل المثال، تجد من يتحدث عبر جهاز الجوال، ثم لايلبث هذا المغامر في السباق الخاسر، أن يرسل برقيات العزاء في وفاة صحوة ضميره عبر ارباكه للمتصل، وعيون المتصل ترمق عينيه في رسالة واضحة، وقد يرسل اشارة بيديه، إلا أن صاحبنا يأبي إلا ان يسابق الزمن في بتر الأدبيات التي يؤمن بها، غير أنه لا يستطيع تطبيقها ولايتحلي بها، تبعاً لاختلال في التوازن الفكري والنفسي علي حد سواء، وهو الخاسر في كل الأحوال، لأنه دق مسماراً في نعش المصالحة مع الذات، جراء هذا الإرباك والارتباك الذي تسبب فيه، عدا عن انعكاس التصور من قبل المتصل ليضيف الي قائمة الرعونة رقماً آخر، ولاعزاء للمقاطعين بفتح الطاء، وانصحهم بأن يغلقوا الأبواب ويوصدوها جيداً، ليتمكنوا من التحدث بحرية بعيداً عن أعين المتطفلين، الذين أدرجهم انعدام الكياسة في قائمة قلة الأدب، وفي سياق متصل مرتبط بالأدب وفنونه الجميلة، تطفو علي السطح نماذج أخري لاتذهب في بؤسها بعيداً عن المقاطعين بكسر الطاء، ويشتركون معهم في نفس الجينات التي تتنامي وتترعرع، متي ماتهيأت لها الأرضية الخصبة، وفقاً للتضاد المعزز للتناقض، والازدواجية التي تخلق انفصاماً، بين الفهم وسعة الإدراك، وبين احتباس الفهم نتيجة لتوقف نبض الشرايين المغذية، لتصويب السلوكيات المنفره، واتيانها، بمعني أنه يدرك في قرارة نفسه ما يتوجب عليه فعله في هذه الناحية أو تلك، غير أن الرعونة لاتقبل أن تغادر، قبل أن تسطر آثارها الكئيبة المحزنة فتستدرجه ليستجيب بغباء مفرط لندائها لحظات، لعدم مراعاته فارق التوقيت في هذا الجانب، وبذلك يخسر عنصراً مؤثراً، إلا وهي المصالحة مع الذات، تبعاً لاهتزاز مؤشر التوافق النفسي والفكري، والنماذج التي سبق الإشارة اليها وينطبق عليها الحديث آنف الذكر، هم أعداء فن الإصغاء، وهم في عدم احترام هذا الفن يخسرون كثيراً، فتجد الواحد منهم وحينما يطرق أذنيه لسماع حديث معين، ندوة كانت أم محاضرة أو غير ذلك وكلها مفيدة بطبيعة الحال، تكون حواسهم بعيدة كل البعد عن الحدث، وخياله يسرح ويمرح بعيداً بينما عيونه تتقلب تارة للمكان والأثاث وتارة يتمعن في لباس المحاضر وهيئته، ولو قدر لك أن تسأله بعد هذه الندوة، عن مدي استفادته من المواضيع التي طرحت فيها، فلن تجد سوي التمتمة بعبارات إنشائية لتكتشف أنه أهدر وقته، وربما ماله سدي، حيث أن الاستيعاب غير موجود في الخدمة، وآمل أن يكون مؤقتاً وللبحث عن سبب غياب الاستيعاب، ومايشكله من أهمية قصوي بهذا الخصوص، فإن ذلك يخضع لاعتبارات عدة، سواء فيما يتعلق بالرغبة، وقدرة المحاور في التأثير ونحو ذلك أو من خلال التهيئة النفسية للاستيعاب وفي تقديري فإن التهيئة، تعد فرس الرهان، في معالجة هذه المسألة، فطالما كانت الرغبة هي المحفزة للسماع فمن باب أولي أن تؤثر هذه الرغبة في مدي التركيز للإصغاء، والاستفادة القصوي، وقد تصدر إحدي نغمات الجوال وفي هذه الأثناء مقطع (لسه فاكر) أو (أنساك) لتنساه الفائدة المرجوة، ويقبع في مؤخرة الركب، كما هو حال المتأخرين دائماً، واللافت أنه يصغي جيداً ويستوعب كلام مديره في العمل، وقد يستقريء أفكاره ومايريد قبل أن ينطق بيد أنه في المحاضرات العلمية المفيدة والندوات، يصل تركيزه الي الحد الأدني، إن لم يغادر مع (الهواجس) وماذا سيطفح (علي الغداء أو العشاء) وحتماً كان للمصلحة دور بارز في تركيزه مع مديره في العمل، غير أن المصلحة أيضاً تكمن في النهوض في مستواه الفكري والثقافي، فمديره في العمل أذكي منه لأنه انصت جيداً، واستوعب الدروس، وطبقها وأصبح بعد ذلك مديراً، فضع الهدف أمامك وحدث قدراتك، بتنمية مهاراتك وصقلها من خلال التركيز والاستيعاب جيداً، سواء كنت في مقاعد الدراسة، او الوظيفة ففن الإصغاء واتقانه سيضيف لك الكثير والكثير مما تحلم به.

بقلم : حمد عبدالرحمن المانع