الرسم في حالة الفرح.. الرسم في حالة الاكتئاب

احتضنت دار الأوبرا المصرية مؤخراً ندوة الفن التشكيلي وتأثيره على حياتنا النفسية بعدما أصبح هذا الفن من أحدث العلاجات في ميدان الطب النفسي، فقد بدأ تطبيقه في أوروبا في عام 2000، ثم في مستشفي الأمراض العصبية والنفسية بالقاهرة في 2001 وفي 2004 تم إنشاء أول مركز طبي متخصص في هذا النوع من العلاج بالمملكة العربية السعودية، وحضر الندوة عدد من الفنانين التشكيليين والإعلاميين.

وأكدت الفنانة أمل نصر أن الفن التشكيلي وسيلة تمكن الإنسان من التعبير عما يدور بداخله من انفعالات ورغبات وتصورات ومشاكل داخلية، مما يعطيه القوة والقدرة على التكيف معها وتعديلها وحلها، كما يغير الرسم أداة مفيدة للأطفال للتعبير عندما تنقصهم للقدرة على التعبير اللغوي واللفظي عما يجيش داخلهم من انفعالات نفسية أو بدنية يكون لها تأثير سلبي عليهم، كما تعد هذه الطريقة أسلوبا آمنا يغنيهم من الحرج ويقيهم من الوقوع في خلافات أو مشاكل مع المحيطين بهم، فلا يحتاج الطفل إلى القيام بسلوك سلبي مثل ضرب أخيه أو زميله في الدراسة أو القيام بتحطيم الأشياء من حوله، وقد أثبتت هذه الوسيلة نجاحها في تعزيز الثقة بالنفس وفتح باب الحوار مع الآخرين.

ويضيف د.محمد شاكر أستاذ الإبداع الفني بأكاديمية الفنون: أن البعض يرسم وهو في حالة من الانشراح وصفاء النفس، مما يزيد من متعته وسعادته، والبعض يرسم في حالة الاكتئاب والحزن حتى يتمكن من السيطرة على مشاعره، والبعض الآخر يرسم في حالات القلق والخطر والتوتر، مما يساعده على التخفيف من توتره ويعطيه الشعور بالأمان والقوة على غرار الإنسان الأول، الذي كان يقوم برسم الحيوانات المفترسة مما ساعده في السيطرة عليها والحد من خطرها المتوقع!

وهناك من يرسم في حالة الغضب والإحباطات الشديدة، كما يؤكد ذاته، أما في حالة الفنانين المحترفين الذين يتمكنون من الدخول إلى مناطق داخلية لا شعورية تمتلئ بالرغبات والمخاوف والتعبير عنها في صور وأشكال يمكن فهمها.

ويستشهد د. محمد بنماذج من المبدعين على مدى العصور المختلفة، والذين تسببت الظروف في إعاقتهم وهم في حقيقة الأمر أكثر صحة وعافية من أي إنسان طبيعي وأنهم كانوا سبباً في سعادتنا وإثراء حياتنا بإبداعاتهم المختلفة ففي القرن 9 ق،م أنتج شيخ شعراء العالم القديم هوميروس الإلياذة والأوديسا وفيها تشريح للنفس البشرية.

وفي تراثنا العربي أنتج أبو العلاء المعرى رهين المحبسين، رسالته الشهيرة «الغفران» وفي عصر النهضة الإيطالية نجد الفنان المعاق «فرانجيلكو» الذي وصفه النقاد بأنه لم يكن يرسم بفرشاته ولا يخط بقلمه وإنما كان يرسم بدموع عينيه!وهناك اللورد فايرون ذو القدم المشوهة ومبتدع الرومانسية والتحليق وراء السحاب هرباً من الواقع المؤلم في أوروبا.

وهناك جون ميتون شيخ الشعراء الضرير، الذي ابتدع قصة «الفردوس المفقود» والذي لا يقل في نظره عن شكسبير وهناك عميد الأدب العربي د.طه حسين واعترافاته في «الأيام»، التي تثير البكاء والشجن من صدقها الشديد ورهافة مشاعره، وهناك رائعة «أرنست هيمنجواي» قصة العجوز والبحر، التي تدور حول العجوز «سنتياجو» الذي تعدى السبعين عاماً وتمكن رغم إعاقته الزمنية وحمل السنين من اصطياد أكبر سمكة في المحيط الأطلنطي،.

ولكن القصة تنتهي بمأساة في محاولة سمك القرش التهام هذه السمكة ومن بعدها استدارت لتنهشه هو فيصرخ، ويقول حكمته العظيمة: إنه لا يوجد في هذه الدنيا معتدى ومعتدى عليه، وإنما الكل يسبح في محيط كبير، وهناك الشاعر «لونج فيلو» الذي شعر بثقل السنين وعبر عنه في قصيدته وقوله لأحفاده وجيرانه وأصدقائه أن الخريف ليس ما نشعر به في الخارج وإنما هو شعور داخلي.


إرادة الحياة!

ويضيف: أنه في القرن العشرين نجد هناك «ستيفن هوكنز» القعيد، الذي أبدع العديد من النظريات الرياضية المعقدة وكان يعمل معيداً في جامعة كامبريدج البريطانية في الطبيعة النووية، ثم أصابه مرض عضال في الأعصاب، وكان من المفترض أن تنتهي حياته بعد عامين على الأكثر، فترك الجامعة وجلس ينتظر الموت فلما مضت أربع سنوات وهو لا يزال على قيد الحياة قرر العودة إلى الجامعة وممارسة عمله، إلا أن المرض كان قد تسرب إلى جسده بأكمله ولم يتبق سوى عقله، الذي كان لا يزال يعمل بكفاءة نادرة،.

ومن ثم قام بصنع كمبيوتر خاص يستخدم فيه إصبعه الوحيد، الذي لا يزال يتحرك ليكتب به حرفا حرفا حتى تتكون الجملة، وكان يواصل إعطاء محاضراته مرتين أسبوعياً، كما كان يشغل كرسي الرياضيات في جامعة كامبريدج ولم تمنعه إعاقته وإنما كانت حافزاً لطاقاته الداخلية الكامنة إلى الإبداع والإنتاج.

الألم والإبداع

وقد كان الموسيقار شوبان الذي أبدع مقطوعته الشهيرة «الثورة» التي عبر فيها عن حزنه عندما اجتاح الروس هولندا موطنه شاهداً على ذلك، وقد جاءت نغماتها تعبر بالفعل عن ثورة متدفقة وأن الحزن الذي كان يستشعره شوبان قد قام بتحويله إلى نغمات مضى عليها أكثر من 160 عاماً ولا تزال باقية ما بقيت الحياة، كما أن إعاقة بيتهوفن، الذي أصيب بالصمم لم تمنعه من قيادة الأوركسترا وإخراج أعذب السيمفونيات وخاصة السادسة والتاسعة.