2- الإلغاء

مرحلةٌ تسبق وتتواكب وتلي مرحلة التأسيس، وهي في كل أحوالها مبنيةٌ على قيام المسلم بتفريغ قلبه ونفسه من كل داءٍ أو علةٍ أو مرض، ومن كل ما تتركه هذه الآفات من آثار وترسُّبات ضارة، فعملية البناء كي تتم بشكل مناسب يجب أن تتم عملية طردٍ وإحلال، طرد لكل الآفات وترسباتها، وإحلال مكانها مبادئ بناء الذات وسلوكياتها، وما لم يبنِ المسلم نفسه على أساسٍ نقيٍّ متين فسيبقى بنيانه على حرفٍ وعلى شفا جرُفٍ هارٍ يوشك أن يتهاوى ويقع.

إن على المسلم أن:
- يراجع نفسه باستمرار، ويلاحظ سلوكياتها، ويقوِّمها.

- يحاسب نفسه بدقةٍ مع كل خطأٍ يخطئه أو هفوةٍ يقع فيها، من أين أتت؟ ولِمَ وقعت؟ وألا يترك الأمر للظروف.

- يتخلَّص من أمراض السلبية والإهمال والكسل والجهل والرجعية أيًّا كان شكلها أو موضوعها.

- يثق في دينه وينتمي له، ويتخلى عن التبعية لأي كيانٍ أو جهةٍ غير دينه وربه تعالى.

إن استخدام العديد من المسلمين لكلماتٍ مثل "قدَّر الله وما شاء فعل"، "خيرًا إن شاء الله"، وغيرها لتبرير خطأٍ وقعوا فيه بسبب الإهمال أو قلة المبالاة لهو استخدامٌ خاطئٌ للشرع، فما كان الله تعالى ليسامحنا على إهمالنا، ولا كان تقديره سبحانه لتبرير لا مبالاتنا.

هذه الكلمات تُستخدَم حين نقوم بواجبنا حق القيام، ونأخذ بالأسباب، ثم تكون النتائج على غير ما نتوقع، حينها يكون قدر الله تعالى، ويكون فيه الخير إن شاء الله تعالى وإن بدا غير ذلك.

الإلغاء ليس أمرًا صعبًا:

لقد قال الله تعالى: "ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها. قد أفلح من زكاها. وقد خاب من دساها"، وقال سبحانه: "وهديناه النجدين"، وقال جلَّ شأنه: "إنا هديناه السبيل إما شاكرًا وإما كفورًا".
هذه الآيات الكريمات تبين أن الإنسان في أعماق نفسه مفطورٌ على الخير. ومعنى "ألهمها": أفهمها، ومعنى "هديناه": عرَّفناه، وكلاهما يحصل بالوعي والإدراك والعقل، فالإنسان ليس –كما يظن الكثيرون- مجبولاً على الخير والشر معا، وأن الأمرين موجودان في فطرته، ولكن النفس البشرية بطبيعتها سوية، والانحراف أمرٌ طارئ تواجد بفعل عوامل خارجية، طمست على قلب الإنسان، وحجبت وعيه وإدراكه، ولا يوجد في الآيات ما يشير إلى أن الشر والفجور طبيعة نفسية قد فطر الله تعالى عليها الإنسان، وما دام الشر بكل أشكاله أمرًا طارئًا وليس أصيلاً في النفس، فالسيطرة عليه وإلغاؤه لن يكون أمرًا صعبًا إذا صدقت النية وصحَّ العزم، ووافق هذا الإلغاء ملء المكان وتأسيسه على تقوى من الله ورضوان.

مسألة بناء الذات بشقيها "التأسيسي" و"الإلغائي" هذه مسألة ضرورية وأساسية كي يبني المسلم بعد ذلك مجتمعه وأمته والعالم من حوله، ولو سأل الإنسان نفسه لماذا تركنا -نحن المسلمين- سبيل التقدم وقيادة الركب، وقام بها الآخرون، بالرغم من أنَّ لدينا أمرًا صريحًا من الله تعالى بأن نكون أمة الشهادة والقيادة؟ فالإجابة أنَّ قيادة الركب يجب أن تتمَّ بغضِّ النظر عمَّن سيقوم بها، وهذه سُنَّة الله في الكون، التي ستحدث بالتأكيد، والأمر متروكٌ بعد ذلك للمسلمين، يستفيدون منها بكونهم الأوفق مع سنن الكون أو لا، فالله سبحانه وتعالى قال: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيَّن لهم أنَّه الحقّ"، ولو وعى المسلمون هذه الآيات وفهموها، وبنوا بها ذاتهم وثقافتهم، لكانوا ساعدوا أنفسهم وقادوا العالم، وقاموا بدورهم المنوط بهم.

لقد جاءنا شهر الفضائل رمضان ليكون الفرصة السانحة الذهبية للقيام بعمليتي التأسيس والإلغاء، فنؤسس أنفسنا تأسيسًا متينًا في ظل إيمانياته وروحانياته وبركات الله تعالى المتنزلة علينا فيه.

وكما رمضان يخلصنا خلاله من بعض العادات السيئة، فلنجعله مفتاح إلغائنا لكل ما نفوسنا من سيئات، فتفرغ وتتخلص وتتنقى، وتعود كما خلقها الله تعالى بيضاء لا تشوبها شائبة، فنحسن حينها البناء.

إن بناء الذات يجب أن تظهر نتائجه في تفعيل هذه الذات، فإنما الأفعال مغاريف القلوب، والسلوك مصداق القول،