تكاد المرأة في العقلية السعودية والعربية عموما، تنحصر في صور ذهنية محددة لا تتجاوز "كيدهن عظيم ـ وناقصات عقل ودين ـ وخُلقت من ضلع أعوج". وهي حقائق ثابتة عن المرأة بنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية، ولا يستطيع أحد إنكارها أو التشكيك فيها، لكن ما يمكن إنكاره ورفضه والتشكيك فيه هو "حصر" المرأة في هذه الصور الذهنية وحدها، وجعل المرأة لا تخرج عن أن تكون "امرأة العزيز" أو "امرأة لوط"، بينما هناك صور تمثل قمة الإيمان والعفاف والنقاء والطهر والصدق والوفاء، وثابتة أيضا بنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
فقد أثنى على المرأة كأم تتحمل تبعات الحمل والولادة والرضاعة والتربية والسهر على الأبناء "ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير"، وجعل الزوجة سكنا ومصدرا للمودة والرحمة "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعلنا بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون"، ومن ينسى قصة "امرأة فرعون" المؤمنة، وقصة أم موسى عليه السلام، وأمهات المؤمنين كخديجة ومواقفها العظيمة في دعم الدعوة، وأم سلمة ورأيها السديد في صلح الحديبية.
إذن هناك حقيقتان للمرأة، الأولى والأهم: حقيقة "الإيمان والعفاف والأمومة ـ والسكن والمودة والرحمة"، والثانية: حقيقة "الكيد ـ ونقص العقل ـ والاعوجاج"، والسؤال الآن ما العوامل التي "حصرت" المرأة في العقلية السعودية والعربية في "الحقيقة الثانية"، مع حجب وتغييب الصورة الأولى؟
في اعتقادي الشخصي أن هناك عدة عوامل، منها أولا: التكريس الإعلامي والثقافي والفني، فالإعلام من خلال أخباره وبرامجه ومسابقاته، والثقافة من خلال القصص والروايات والكتب المختلفة، والفن من خلال المسلسلات والأفلام، كلها تصب في تصوير المرأة كجسد جميل فقط، وكعقل لا هم له إلا الكيد والخيانة، وكمخلوق ناقص يمكن استغلاله، بل واستعباده بسهولة، ومن خلال مصطلحات براقة "كالحرية ـ وتحقيق الذات ـ وممارسة الموهبة" وغيرها، بينما يتم عمدا تغييب الصور الجميلة والزاهية للنساء كأمهات وزوجات ومؤمنات قانعات فاضلات قائمات على بيوتهن وأزواجهن وأبنائهن.
ثانيا: الشّعر، فالمرأة في الأغلب الأعم من الشّعر العربي عموما قديمه وحديثه، هي الحبيبة والمعشوقة الجميلة، التي لا هم لها إلا التجمل والتزين للقاء الحبيب، ولا عمل لها في الحياة إلا التفكير في الحبيب، ومخاتلة الأهل للقائه!، ولذلك كم قصيدة في الشعر العربي عن المرأة كأم ومربية، أو كزوجة وسكن، أو كبنت وممرضة، قليل جدا.
ثالثا: ثقافة المجالس، فلا تكاد تجلس في مجلس إلا والحديث المفضل هو النساء، والمؤسف أنه حديث انتقاص وتشويه، فالقصص كلها عن النساء الخائنات، وعديمات الوفاء لأزواجهن، والتاركات لأبنائهن بحثا عن زواج آخر، بل إن النصائح التي تقدمها هذه المجالس ـ بثقافتها الهزيلة ـ للشباب كلها تتركز على أهمية الشدة على المرأة، وأيضا على الجانب الجنسي في الحياة الزوجية، مع تغييب تام للجوانب الإنسانية من الرحمة والمودة، وقصص هذه المجالس تكاد تكون مكررة في كل المجالس والمناطق بل والدول، اللهم إلا تغيير الأسماء والأماكن، ومرة أخرى يتم تغييب قصص الصور النقية التي توضح فضل النساء ودورهن الكبير والمحوري في الحياة.
رابعا: ما تحتويه كتب التراث من قصص بعضها خرافية ولا يقبلها العقل عن كيد النساء ونقص عقولهن وتفضيلهن للجنس حتى على الأبناء، وهذه القصص التراثية ـ رغم أسطوريتها ـ تمثل رافدا مهما لثقافة الإعلام والمجالس، مع كثير جدا من التحوير والتغيير والزيادة والمبالغة، حسب المواقف.
خامسا: التجارب الذاتية، لا شك أن من أقام علاقات مع نساء، لن يستطيع تفكيره تجاوز هذه العلاقات حين يتحدث عن النساء، فتصبح كل الصور الذهنية الموجودة في عقله عن النساء مستقاة من علاقاته الشخصية، وتجاربه الذاتية، ولعل من أعجب العجب هنا، أن تجد رجلا رزقه الله بأم فاضلة، وزوجة صالحة، وأخوات طاهرات، وبنات عفيفات، لكن حديثه كله عن كيد النساء ونقص عقولهن واعوجاج سلوكهن، بل قد يتعامل مع محارمه على هذا الأساس المقيت، فيدمر حياة كثير من محارمه بشكوكه، وما ذلك إلا بتأثير واحد من العوامل الخمسة التي ذكرناها آنفا، وعلى سبيل المثال، فإن الثابت شرعا وعقلا، أن البحث عن إحساس الأمومة هو المحرك الأول لتفكير الأنثى في الزواج، فضلا عن الجوانب الإنسانية والحياتية الأخرى، لكن الثقافة الفاسدة حورت هذا المعنى، لتحصره في اتهام المرأة بالبحث عن الجنس، لتكمل مسلسل سوء الظن بالنساء، وحصرهن في صور ذهنية محددة، وقد يقول قائل: وماذا عن هؤلاء النسوة المتبرجات الكاسيات العاريات من مطربات وراقصات وممثلات، وأيضا اللاتي يملأن الأسواق متبرجات، واللاتي يملأن مواقع التواصل الاجتماعي والشات بصورهن؟، أقول له: أرجو أن تنظر للجهة الأخرى المقابلة أيضا، وأقصد البيوت والمدارس والمستشفيات، بل حتى في الأسواق، إنها مليئة بأكثر من هؤلاء اللاتي عددتهن، مليئة بالنساء المؤمنات العفيفات المحتشمات الطيبات الطاهرات، منهن القائمات على خدمة وتمريض آبائهن أو أمهاتهن أو أزواجهن أو أبنائهن، ومنهن من نذرت حياتها بعد وفاة زوجها لتربية أبنائها، بل وصنعت منهم رجالا يُشار إليهم بالبنان، ومنهن من تنازلت عن أحلامها المشروعة في الزواج والأمومة لتقوم بإعالة أسرة كبيرة على عاتقها، وصور أخرى كثيرة للنساء العظيمات تبين أهميتهن ودورهن الكبير في الحياة، وهو الدور الذي لا تهتم به ولا تركز عليه ـ بل تغيبه ـ ثقافة الإعلام وثقافة المجالس، وثقافة قصص التراث. إنني لا أنزه المرأة، لكنني أطالب بإنصافها، وذلك بالموازنة حين نتحدث عنها بين الصور الرائعة المليئة بالطهر والنقاء والإيمان والحياء والوفاء والمودة والرحمة، وبين صور الكيد والنقص والاعوجاج، بلا ضرر أو ضرار.


المصدر : جريدة القبس