الحكمة نضوج .. والنضوج حكمة



إبراهيم كشت - في اللغة ، يقال إن الحكمة تعني : (صواب الأمر وسداده) ، وتطلق الحكمة كذلك على (الكلام الذي يَقلُّ لفظه ويَجِلُّ معناه) كما في بعض أشعار زهير والمتنبي مثلاً ، أو في مقولات بعض المفكرين والأدباء 0 وتذهب المراجع الفلسفية مذاهب شتى في تحديدها لدلالة لفظ الحكمة ، ومن ذلك مثلاً قولها إن الحكمة هي : (الحُكْمُ القويم المتزن) وقولها إنها : (سمة الإنسان المجرب) وقولها كذلك إنها : (معرفة تأملية وفطرية) وقولها إنها : (الرأي السديد الذي يُسْلِكُ صاحبه المسلك الصائب) وقول الفيلسوف كانت في الحكمة إنها : (القدرة على اختيار الطريقة التي تنتهي بنا إلى السعادة) .
ومما أعجبني مِنْ فَهْمٍ وتحليلٍ لمدلول (الحكمة) ، ذلك الذي أورده الإمام القرطبي (المتوفى سنة 1272م) في شرحه لدلالة هذا اللفظ (أعني الحكمة) من خلال تفسيرة للآية الكريمة ( يؤتي الحكمة من يشاء ، ومن يؤتَ الحكمة ، فقد أُوتى خيراً كثيراً ، وما يذكّرُ إلا أُولو الألباب) إذ يقول القرطبي رحمه الله ( أصل الحكمة ما يُمْتَنَعُ به عن السَّفه) ، والسَّفهُ (ومنه السفيه والسفاهة) يشير في اللغة إلى عدة معان سلبية ، لا تعدمُ الصلة فيما بينها ، ومن تلك المعاني : الجهل ، رداءَة الخلق ، قلَّةُ الحلم ، الخِفَّة ، الاضطراب ، الطيش ، وعدم الاتزان بوجه عام . وعلى ذلك ، فإن ما نفهمه مما ذهب إليه الإمام القرطبي هو أن الحكمة خُلق يحول دون الوقوع في السَّفه ، أو لنقل إن الحكمة فضيلة يترفّع من يتمسك بها عن الخِفَّةِ والطيش وعدم الإتزان .
ويعتبر القرطبي أن العلم مثلاً حكمة لأنه (يمتنعُ به ، وبه يُعْلَمُ الامتناعُ عن السَّفه ..) ، ونستشفُّ من هذا الفهم أن كل ما يحول دون الوقوع في السفه بمعانيه المتعددة التي أشرنا إليها يدخل في باب الحكمة ، أو يعد من قبيل الحكمة ، وبناء على ذلك يمكننا أن نقول : إن الفهم ، والخبرة ، وسعة الصدر ، والصبر ، والإعراض عن الجاهلين ، والترفع عن الصغائر ، واتخاذ القرارات الصحيحة في الوقت المناسب ، كلها تقع ضمن مفهوم الحكمة وتدخل في صلبها .
ولو جاز لي أن أصوغ تعريفاً للحكمة لقلتُ : إنها منهج حياة ، وهذا المنهج يتألف من جانبين أساسيين أحدهما نظري والآخر عملي ، فالجانب النظري من الحكمة كمنهج حياة هو أفكار وقناعات تتسم عادة بالعقلانية والنضج والواقعية وبعد النظر وتفهم قوانين الحياة ، نتيجة الخبرة والتأمل والاستفادة من تجارب الذات والآخر ، أما الجانب العملي من منهج الحكمة هذا فهو سلوك ينطلق عن تلك القناعات ، ويتميّز بالاتزان ، والمرونة ، وسعة الصدر ، والاعتدال في الانفعالات وردود الأفعال ، والترفع عن الصغائر ، والحصافة في إتخاذ القرارات ، وحسن التعامل مع الأحداث والوقائع والأشخاص .
وتُميّز المراجع في مجال إدارة المعرفة بين أربعة مفاهيم أساسية تدخل في تكوينها (أي في تكوين إدارة المعرفة) وهي : البيانات ، والمعلومات ، والمعرفة ، والحكمة . فالبيانات عبارة عن معطيات ماتزال في حالتها الخام ، ولا يستفاد منها بشكلها المجرد هذا ، أما المعلومات فتنتج عن معالجة البيانات ، فتكون لها دلالة وفائدة ، والمعرفة هي المعلومات في حالتها القابلة للاستخدام العملي وتحقيق النتائج ، أما الحكمة فهي استخدام فعّال وكفؤ وحصيف للمعرفة ؛ لتحقيق أفضل النتائج بأحسن الطرائق .
ويخطر لي وأنا أتحدث في موضوع الحكمة مفهوم آخر معروف في علم النفس ، وهو النضوج العاطفي أو الوجداني ، حيث يبدو أن جزءاً كبيراً من الحكمة نجده في النضوج ، وإن شئت فلنقل إن جزءاً كبيراً من النضوج نجده في الحكمة ، فالناضج عاطفياً في علم النفس يتسم بسمات متعددة منها الاتزان ، وعدم الميل إلى الاندفاع ، والقدرة على التعامل الحصيف مع الواقع ، وتتصفُ استجاباته بالتناسب مع المثيرات ، وبعدم الإلحاح على الاشباع الفوري للرغبات سعياً نحو الحصول على أهداف أبعد منالاً وأفضل ، إضافة إلى القدرة على الاستفادة من التجارب ، والقدرة على التكيّف مع البيئة الاجتماعية والطبيعية ، وفي كل ذلك بالتأكيد شيء كثير من الحكمة .
وربما كانت الكتب العديدة التي أضحت تزخر بها المكتبات ، والتي تدور في موضوعاتها حول تطوير الذات وتحقيق النجاح والتفوق والسعادة ، وترسم للقارئ صورة السلوك الأفضل في البيت والعمل وفي شتى المجالات ، وفي التعامل مع الرئيس والزميل والمرؤوس والزوج والأبناء ، أقول : ربما كانت تلك الكتب مثالاً للبحث عن الحكمة ومحاولة صياغتها مستندة إلى العلم والتجربة والتأمل . يضاف إلى ذلك أن كثيراً مما تدعو إليه قواعد علم الإدارة هو أشكال من الحكمة ، فهل ثمة ما هو أكثر حكمة من دعوتها مثلاً إلى عمل الشيء الصحيح بطريقة صحيحة من أول مرة ، أو دعوتها إلى الحصول على أفضل المخرجات باستخدام أقل المدخلات ، أو ما إلى ذلك .
وبعد ، رغم أن لفظ (الحكمة) لم يعد مستخدماً على نطاق واسع في حياتنا المعاصرة ، أو ربما لم يَعُدْ اسماً يطلق على كثير مما يدخل في نطاق الحكمة وفقاً لمفهومها الذي تقدم ، فإننا في عصر أحوج ما نكون فيه إلى (الحكمة) ، فسِمَةُ هذا العصر هي تعدد الخيارات ، وزيادة الضغوط ، وسرعة التغيّر ، والتعقيد في العلاقات ، والتعامل مع كل ذلك يحتاج بلا شك إلى مزيد من (الحكمة) .



جريدة الرأي
أبواب