في النفس والمجتمع - قيمة المحبة



المحبّة عاطفة أساسها الميل النفسي نحو شخص أو شيء أو فكرة، والأُنسُ إليها، والانجذاب نحوها، والسعي لخيرها دون انتظار نفع أو مقابل . ويغلُبُ أن ترتبط هذه العاطفة بمشاعر واستعدادات ومواقف أخرى ترافقها، فإذا كانت المحبّة موجّهة نحو شخص فإنها تقترن عادة برؤية الجانب الأجمل والأفضل من شخصيته، وتفهُّمِهِ، والحرص عليه، والدفاع عنه، والتماس الأعذار لزلاّته، والاهتمام بأموره حتى الصغير منها، وتمني الخير له، والفرح لنجاحه، والاستياء لإخفاقه، والتألم لألمه، والشعور بالذنب عند إيذائه، والاستمتاع بمجالسته ومرافقته أو سماع أخباره، كما قد تقترن هذه المحبة بافتقاد الشخص المحبوب عند غيابه، والاشتياق إليه، ومنحه حيّزاً مــن التفكير والوقـت، والاستعداد للتضحية لأجله.
وإذا كان نَقيضُ المحبّة هـو (الكُره)، فإنه يتمثل بالنفور من شخص أو شيء أو فكرة، ويغلب أن يرتبط بالابتعاد عن المكروه أو تحاشيه، مع رؤية الجانب السلبي منه، وربما تمنّي زواله، أو لحاق الأذى به، فإذا كان الكُره موجهاً نحـو شخص مثلاً فغالباً ما يقترن بعدم القدرة على تفهّمه أو التماس العذر لأخطائه، مع ميلٍ إلى إدانته وتضخيم هنّاته، وعدم القدرة على التكيف معه، والإحساس بالتّوتر لمجرد مجالسته أو مرافقته أو الاستماع إليه، وقد ينقلب هذا التوتر إلـى عدوان في المواقف أو في التعابير أو الألفاظ أو الجوارح والأفعال.
والمحبة هي أم الفضائل، لأنها بطبيعتها منبع لعدة أخلاق طيّبة وسلوكات إيجابية أخرى : ففي ظلال أغصان شجرة المحبة الوارفة الممتدة في الوجدان تنمو أزهار الحنان والعطف والرحمة، وتتجه بجمال ألوانها وعبق أريجها إلى شخص المحبوب . وعن أضواء قنديل المحبة المنير داخل النفس، يشعشع سناء السلام فيغمر علاقتنا بالمحبوب، فنحن أقل عدوانية عادة نحو من نحب وأكثر تسامحاً وصفحاً عنه . ومن صفاء وصدقيّة المحبّة المتدفقة في القلب يتمخض تفهم (الآخر) الذي نحبه والصبر على سلوكه الذي قـد لا يواتينا، ومن صميم بذرة المحبة المتحفِّزة للإنبات والنمو والاخضرار والإزهار والإثمار ينبثقُ البذل والإيثار والتضحية والعطاء . حتى الولاء المفعَمُ بالإخلاص والحماس للعمل، والموجّهَ للوطن أو لمؤسسة أو فكرة أو موضوع أصله تلك المحبة التي نُكنُّها لأيٍّ منها 0
ليس هذا وحسب، فالفضائل التي تولد من رحم المحبة، وتنبجِسُ كالينابيع العذبة من جوفها، تكـون صادقة حقيقية لا تكلف فيها، تنطلق من شخص المُحبِّ بمحض إرادته، وعن طيب خاطر منه، فقد أتكلّفُ مثلاً الصفح عن شخص أساء لي، وقد أتكلف عناء الصبر على سوء سلوكه، لأسباب متعددة دينية أو فكرية أو اجتماعية أو نفعيّة، لكن إذا كنت أَحمل المحبة لهذا الشخص، فإن صفحي وصبري سينطلقان من ذاتي ومن إحساسي الطبيعي التلقائي . وبناء على ذلك فإن الفضائل المتعددة التي تنبع مـن المحبة تكون أقرب لمفهوم الأخلاق، لأن الخُلق يعني الطبع والسجيّة، ويعني السلوك الصادر عن النفس دون تكلّف، وهي ـ أعني الفضائل الناتجة عن المحبة ـ أقرب إلى الأخلاق وأبعد عن التخلّق كذلك، لأنها لا تهدف إلى نفع أو كسب أو مصلحة، وإنما هي فضائل تؤدّى لذاتها ولا تنطلق إلا عن المحبّة، فهي بذلك متوافقة مع تعريف الأخلاق التي قال المرحوم المنفلوطي في كتابه (النظرات) إنها تعني : (( أداء الواجب لذاته، بقطع النظر عما يترتب عليه من نتائج )) .
حتى الحيوانات ذوات المخالـب أو الأنياب أو الأظلاف أو المناقير، تغدو على خُلُقٍ حَسَنٍ محمـود (إن جاز التعبير) حين تدخل المحبـة إلى نفوسها .. ولك أن تراقب أي حيوان في سلوكه حيال أبنائه حديثي الولادة، وهو يحمل لهم ما يحمل من الحُبّ، إنه يصطاد الفريسة ثم يجري بها ويضعها أمامهم، يُؤْثِرُهُم على نفسه ولـو كان يعاني الجوع . وترى القطّة تستلقي بطيب خاطر، صابرة على أبنائها وهم يرضعون منها مجتمعين، مُصدرةً صوت (الخرخرة) التي تُعبِّر عن سعادتها . والدجاجة المسكينة ذات العيون القلقة المتوجِّسة تغدو ذات شجاعة غريبة إذا حاول أحد أن يقترب من صغارها ... كل ذلك دون أن تبغي تلك الحيوانات من فعلها نفعاً لذاتها، ودون أن تعرف أساليب التكلّف والتصنّع والرِّياء أو تتقنها .
الرأي الأردنية أبواب
ابراهيم كشت