العلاج المعرفي والتواصل
تـاليف
د. لطفي الحضري
يأتي سياق العلاج المعرفي على وجه الخصوص في وضع آليات وتقنيات علاجية يمكن استعمالها لتغيير أو تعديل سلوك المريض. ولكن الذي ألاحظه على المستوى العيادي هو إشكالية تطبيق هذه الآليات رغم توفر العديد من المعالجين خاصة الجدد منهم على تكوين جيد في هذه الآليات، إلا أنه قلما تتمر هذه التقنيات بالشفاء المعول عليها.
اهتمام المعالجين والأطباء بالمقام الذي يجب أن تستعمل فيه هذه الآليات، وأعني بالمقام الإطار التواصلي الذي يمكن هذه الآليات من النضج التطبيقي هو الذي يقلص من الفعالية المتوخاة في التقنيات المعرفية.
يأتي مقالنا هذا، لتوضيح العلاقة الوطيدة التي يجب أن تفعل فيها الآلية العلاجية والنسق التواصلي. أقول أن معرفة الآليات العلاجية وحدها غير كافية للعلاج المعرفي النفسي، بل يجب أن تكون مقرونة بمعرفة تواصلية قبلية، إذ تمكن من:
• تـأطير هذه الآليات
• تفعلها
• وتسمح بالتجاوب الأولي مع المريض
إذن فالنسق التواصلي هو الذي يحدد ويعمق مدى نجاح التقنية المعرفية التي يكتسبها الطالب فلا بد من الشروط التالية:
• خلق تجاوب تواصلي مع المريض
• خلق إطار الثقة مع المريض
• تفسير المنهجية العلاجية المعرفية
• تفسير الخطط العلاجية التطبيقية خارج العيادة
• إقناع المريض بتطبيق التقنيات المعرفية
هذه الشروط وغيرها مرتبطة أكثر بالأنساق التواصلية من التقنيات المعرفية. إن معرفة التقنية منفصلة على إطارها التواصلي غير كفيل بإنجاح العلاج. وهذه من الأخطاء الكبرى في تدريس العلاج النفسي بصفة عامة لأنه ينزع من إطاره التواصلي, فالمعرفة واكتساب خبرات في العلاج النفسي والمعرفي مرتبط كما ذكرت آنفا بمدى قدرة المعالج على تطبيق التناغم بين التقنيات المعرفية وتقنيات التواصل.
نركز من وجهتنا على موضوع "العلاقة" ونرمز إليها بحرف "ع" هذه العلاقة هي مفتاح وعقدة أي مسلسل علاجي على الإطلاق، فأي مسار علاجي يمحي ويخفي أهمية العلاقة العلاجية تجعل من التقنيات المعرفية خطة بدون نتيجة، ومعرفة قليلة النضج على مستوى تعديل السلوك.
فالوضع الطبيعي للعلاج النفسي هو قبل كل شيء وضع "علائقي" "ع"، بمعنى منظومة تواصلية، على شكل دائري يتفاعلان فيها المريض والمعالج، وهذا التفاعل هو الذي يخلق الإطار العلاجي ويمكن من تطبيق التقنيات المعرفية.
فالعلاقة تكتسي عاملا حاسما في المسلسل العلاجي.
فالطبيعة التواصلية هي التي تسمح لأي قاعدة بأن تتحول من قاعدة إلى تقنية علاجية فعالة.
القاعدة تفهم... وتستعاب ... ولكن خروجها إلى المستوى التطبيقي والعملي... يجب أن يمر عبر القنوات التواصلية أهمها:
التواصل الجسدي: النظر... تعبير الوجه... الابتسامة...
التواصل المقامي: شكل المكان... اللباس... طريقة الاستقبال...
التواصل الصوتي: النبرات الصوتية... ارتفاع وانخفاض الصوت... ديمومة هذا الصوت... دفئ الصوت....
التواصل اللغوي: (وهو الأهم)،... اختيار الألفاظ... سياق الألفاظ...
ويمكن أن نقول بأن القاعدة التي تكتسي هذه المبادئ التواصلية الأولية تجعل منها قاعدة حية قابلة للاستعمال، وتصبح بذلك تقنية معرفية يمكن أن تطبق على مستوى العيادي، لتصبح قادرة على خلق تغيير في سلوك المريض.
تعديل التفسير السلبي
داخل القاعدة الأولى ننتقل إلى تعديل التفسير السلبي الذي يتطلب العمل على تغيير المفاهيم الخاطئة والراسخة في ذهن المريض. والذي منها يتعامل مع الأحداث. وهذا التعامل يرسخ الاعتقاد الذي بدوره يرسخ السلوك السلبي. حيث نبحث عند المريض على ثلاث مفاهيم ذهنية خاطئة. وعلى المعالج أن يقوم بتغييرها وتعديلها.
• "أنا قادر على فعل كل شيء"
• "لا أستطيع أن أغير أي شيء لأني شخص فاشل"
• "إن لم أفعل ما أريد، فإني شخص لا يساوي أي شيء".
هذه الأفكار أو الاعتقادات تشكل الخطاطة الذهنية التي يمتلكها المريض ويعتقدها اعتقادا جازما. هذه الخطاطة هي التي تحدد تفسير الأحداث، بحيث من خلالها يتخذ الشخص مواقفه وتحدد بالضرورة سلوكه. ولتغيير هذه الأفكار لابد من ربط أولا وقبل كل شيء "بالمشاعر" فالأفكار لا قوة لها على السلوك إلا بالمرور عبر قنوات المشاعر وهنا تزداد أهمية المعرفة بتقنيات التواصل.
إن المشاعر مرتبطة بالأفكار والعكس صحيح. والمشاعر تتطلب قدرا كبيرا من فهم الطريقة التي يريد بها المريض أن يتواصل، لأن الدخول إلى المشاعر يتطلب سياقا نفسيا. فإن قلت للمريض "أريد أن أعرف مشاعرك" وأنت تقرأ هذه الجملة فلا بد كما ذكرت أنفا أن أستعمل النقاط الأساسية في التواصل. فالجملة التي ذكرتها هي في الواقع تمثل "مضمون الخطاب"، ويبقي شكل الخطاب هو الذي يمثل 80 في المائة من قوة الإقناع. فأنت حينما تقرأ هذه الجملة فأنت تعطيها بطريقة نطقك إياها "حالتها النفسية"، بمعنى طريقتك التواصلية هي التي حددت معنى الخطاب. فقد كان بالإمكان أن يكون :
• كلمني عن مشاعرك الإيجابية
• كلمني عن مشاعرك السلبية
• ما معنى مشاعرك
والأخطر من هذا كله هو تلك اللمحة التي قد تعطيها للمريض في تشكيكك في مشاعره فتكون على الشكل التالي
• هل مشاعرك موضوعية
• هل أنت متيقن من مشاعرك
•
إذن فالشكل الخطابي هو الذي يحدد القيمة العملية للخطاب ويهيئ الظروف النفسية التي قد تدفع أو تكبح المريض على الإفصاح عن مشاعره، حتى تتمكن من جهة أن تربط أو تفكك من جهة أخرى هذه المشاعر من الأفكار. هذه العملية هي التقنية العلاجية، وهكذا أعود فأقول أن "مضمون الخطاب" شيء جيد ولكن شكل الخطاب هو الذي يحدد الفعالية النفسية العلاجية.
المشاعر تربط الفكرة بالصورة، والصورة العاطفية تحدد نوعية "الحكم" الذي يقوم به المريض وهذا الحكم أيضا يدفع الشخص الاتخاذ مواقف سلبية أو إيجابية، فيصبح هذا الموقف أوتوماتيكيا، وهذه الحالة تحدد الحالة النفسية للشخص لأن السلوك " العفوي" يصبح مقرونا بمشاعر لا يتم في الواقع التعامل معها بطريقة موضوعية، وهذه الطريقة الموضوعية هي الهدف الرئيسي للعلاج.
هدفنا أن تصبح المشاعر والأفكار في توازن طبيعي ويصبح الموقف متناغما مع حدة ودرجة الموقف، فيصبح المريض قادرا على اتخاذ مواقف صحيحة وإيجابية متجاوزا بذلك التنافر المعرفي التالي:
الاستنتاجات العبثية: ونعني بهذا أن المريض يقوم بآستنتاجات لا تقوم على حجج. (حالة الهلع مثلا).
القراءة الانتقائية: الاهتمام المتزايد بطارئ خارج الحدث الحقيقي، حيث يبني عليه موقفه. (انتقال إلى سكنى جديدة فتكون سيارة سوداء واقفة أمام المنزل عاملا للإحساس بالقلق)..
التعميم المطلق: انطلاقا من حادث ما تصبح جميع الأحداث مرتبطة بذلك الحدث الأول. (شخص يسقط من فوق سلم وتصبح جميع السلالم خطيرة، أو حادث سيارة تصبح كل السيارات خطيرة).
التفريط أو الإفراط: ربط سلوك سلبي بكل التصرفات، الإفراط في الحكم. (الرسوب في امتحان ما وربط هذا الفشل بكل الامتحانات).
"مطلق الأنا": ربط كل ما هو سلبي بالشخصية "بالأنا" ففي حالة الرسوب (أنف الذكر) فهولا يرتبط فقط بالامتحانات بل يقول الشخص إني فشلت في هذا الامتحان ويصبح الفكر والاعتقاد "إني إنسان فاشل".
خاتمة
تغيير سلوك المريض مرتبط بشكل أساسي بتمكن المعالج النفسي من تقنيات العلاج المعرفي من جهة ومرتبط من الجهة الثانية بالتمكن عمليا من التقنيات التواصلية. وهكذا فمسؤولية المسلسل العلاجي مرتبطة بالحالة النفسية للمريض ولكن مرتبطة أيضا بقدرتنا على خلق "إطار تواصلي علمي" . ونريد أن أقول بعلمي معرفتنا الواضحة بالمناهج التواصلية التي أنا بصدد استعمالها مع المريض. فالمسلسل التواصلي يمكنني من تفعيل تقنيات العلاج المعرفي من أجل تغيير وتعديل سلوك المريض.
المفضلات