"محاكاة الطبيعة" تفتح آفاقاً تقنية جديدة


تقنيات جديدة تعلمها الباحثون من النباتات
الطبيعة هي المعلم الأول للإنسان، ومعظم الاختراعات هي في أصلها تقليداً لها. واليوم يعود العلماء لاستلهامها في ابتكاراتهم بعد عقود من العزوف عنها. فما تقدمه الطبيعة من طرق وحلول يمكن استثماره لتحسين المخترعات الحالية.

تعود الإنسان على استلهام اختراعاته من الطبيعة. فالملابس مثلا بدأت باتخاذ جلود الحيوانات وفروها نموذجا لها حتى تطورت لتصل إلى صورتها الحالية. وربما نسى الإنسان ما تعلمه من الطبيعة وأصبح يعتمد على الاختراعات في صورتها الحالية، إلا أن الباحثين عادوا في الآونة الأخيرة إلى الاهتمام بالطبيعة، إذ وجدوا فيها قدرات قد تفيدهم كثيراً في ابتكار تقنيات حديثة. والـ"بيوميميتيك biomimetic" أو علم "محاكاة الطبيعة" أصبح في بؤرة اهتمام عدد كبير من العلماء اليوم، حيث يسعون من خلال هذه التقنية إلى فهم التركيبات الطبيعية لاستخدامها في تطبيقات مفيدة.

وتعد منطقة جنوب ألمانيا قلعة للتقنية الجديدة، حيث أقيمت مؤخراً ندوة في مركز أبحاث النسيج في مدينة دينكندورف حول البيوميتيك وتطبيقاتها الممكنة. وأشهر تطبيقات هذه التقنية هو شريط اللصق (المعروف بفيلكرو Velcro) والذي يستخدم على سبيل المثال في صناعة الأحذية. فكرة هذا الاختراع البسيط استغرقت من العالم السويسري جورج دي ميسترال ثماني سنوات حتى تمكن من تطبيقها. فكثيرا ما شاهد بذور النباتات الشائكة وهي تلتصق بفرو الكلاب أو بألياف بعض الملابس بمجرد سقوطها من الشجر على السائرين أسفلها. وبعد فترة من التأمل استطاع العالم أن يحول هذه الظاهرة إلى تطبيق علمي نستخدمه في حياتنا اليومية. وقد سهلت هذه الشرائط ذاتية اللصق، التي يمكن لصقها وفكها بسهولة وبسرعة الكثير من الأعمال.

لكن فهم ما طورته وحسنته الطبيعة خلال ملايين السنين ليس بالأمر السهل كما يؤكد البروفسور توماس شبيك، مدير حديقة النباتات بجامعة فرايبورج والمتحدث عن شبكة المختصين في تقنية "بيوميمتيك" أو محاكاة الطبيعة. ويضيف: "البيوميميتك ليس نقلاً كربونياً عن الطبيعة، ولكنه ابتكار جديد مستوحى من أمثلة طبيعية، فهو يمر بعدة مراحل قبل أن يصل إلى المنتج النهائي."

أبحاث مستمرة وتطبيقات متعددة


لكل نبات مميزاته التي يمكن التعلم منها
تقوم الطبيعة بتطوير ابتكاراتها بطريقة لعبة "الليغو" التي يمارسها الأطفال. عدد قليل من المواد الأولية ينتج عددا هائلا من المركبات. بياض البيض مثلاً مكون من عدد قليل من الجزيئات، 20 حمض أميني على وجه التقريب، ولكن يَنتج عبر تنويعاها المختلفة عدداً ضخماً من المواد. المنسوجات تُصنع بصورة مشابهة: فالخيوط تصنع من الألياف، ومن الخيوط تنتج الأقمشة. وبمشاهدة الطبيعة يجد الإنسان أن الأمر لا يتوقف على سيقان النبات المكونة من الألياف، إذ أن العظام أيضا مكونة من الألياف، وتحليل هذه التركيبات الطبيعية للمواد المختلفة، ثم نقلها وتحويلها لتقنية جديدة يفتح مجالاً كبيراً من التطبيقات.

وأثناء الندوة أفصح البروفسور شبيك عن مشروع اختراع مشترك بين المعهد وجامعة فرايبورج، فكرة هذا الاختراع مستمدة من أحد النباتات التي تظهر بشكل خاص في منطقة البحر المتوسط، وهي نباتات تظهر على شكل عيدان قوية مثل البوص. ويتمثل المشروع في ابتكار "عود نباتي" مشابه يتميز بمتانة ميكانيكية ويمكن إنتاجه باستخدام القليل من المواد الخام، وهو ما يعني منتج قليل الوزن وقليل الكلفة في نفس الوقت. كذلك لهذا العود النباتي قدرة جيدة على الاحتباس البخاري، كما أنه مثل نبات ذنب الخيل، يتميز بالقنوات الوظيفية التي تفتح في جدار العود، ويمكن بالتالي استخدام نفس الفكرة في العود الصناعي لمد توصيلات الوقود و المياه والكهرباء بهذه القنوات، فتكون مدمجة بشكل مباشر في الجزء الرئيسي.

آفاق مستقبلية واسعة


يمكن توظيف البيوميميتيك لتوفير استهلاك المياه
في الوقت الحالي يتعلم الباحثون من الطبيعة كيف تصلح نفسها، كما هو الحال عندما يقطع الشخص إصبعه خطأ أو ينكسر عود النبات. وهو ما أمكن تقليده في المعمل، فأمكن إصلاح ثقوب في أنسجة تصل إلى 5 ملليمترات باستخدام الوسيلة نفسها التي تستخدمها الطبيعة. ويمكن القول أن تقنيات البيوميمتك لن تبدل التقنية المتعارف عليها حالياً، لكنها ستكملها، وستفتح مجالات جديدة تماماً. فقد يمكن نقل السوائل إلى أعلى بلا مضخات على مثال نبات الليانا المتسلق الذي ينقل المياه حتى مسافة 1 كيلومتر. قد يساعد تطبيق هذه التقنية في الزراعة على الاقتصاد في المياه المطلوبة ومنع تبديد كميات هائلة منها. وهو ما يؤكده الدكتور توماس شتيجماير من معهد دينكندورف قائلاً: "من الابتكارات المدهشة أنظمة نقل المياه. وهي تمثل تحدياً تقنياً كبير، أن نحول هذه الأنظمة القادرة على نقل المياه على ارتفاع 10 متر حتى الآن إلى أنظمة قادرة على نقل المياه على ارتفاع يصل إلى مئة متر، على مثال الطبيعة". هذه الأنظمة ستقلل تبديد المياه وتوفر الطاقة المستخدمة في المضخات. ومن أجل الانتفاع بهذه الإمكانيات التقنية والمجالات التي يمكن أن تفتحها هذه التقنية، فقد خصصت ألمانيا حوالي 50 مليون يورو لدعم أبحاثها. وعندما نرجع بالذاكرة للوراء لتذكر قصة نجاح "الشريط ذاتي اللصق" الذي أصبح في متناول الجميع، نتأكد من أن هذه الأبحاث تستحق بالفعل الدعم.

علوم وتكنولوجيا | 02.06.2006
دويتشه فيلّه