الثقافة الشفهية
د. عبد الكريم بكار

لا يستطيع الناس التعامل مع بعضهم ومع تحديات الحياة وظروف العيش المختلفة من غير وسيط اسمه (الثقافة)، بل يمكن القول: إن الثقافة هي التي تنقل البشر من الوضعية (البايلوجية) إلى وضعية (الإنسانية)؛ وذلك بما توفره من مشاعر ورموز لغوية وعادات وتقاليد ومعايير للصواب والخطأ، والخير والشر، واللائق وغير اللائق... وأعتقد أن من الأهمية بمكان تسليط الضوء على هذه المسألة حتى نحسِّن درجة وعينا بأنفسنا وأحوالنا.

1 - نستطيع تقسيم الثقافة إلى شعبية ونخبوية، أو إلى شفاهية وكتابية، أو إلى ثقافة واعية وغير واعية، تختلف الأسماء، والمعنى واحد.

2 - لا شك في أن الثقافة التي تكوَّنت لدى الأمم والشعوب أولاً هي الثقافة الشفاهية، أي: التي انتشرت وتغلغلت في النفوس والسلوكيات عبر المشافهة وعبر الرؤية والسمع، فالناس جميعاً يتكلمون لكنهم لا يحسنون جميعاً القراءة والكتابة؛ وذلك لأن الكتابة تستدعي درجة من الوعي والتنظيم والمثابرة في التعلُّم، لا يتطلبه التفوُّه ببعض الكلمات أو صوغ بعض الجمل والعبارات. ولو كان هذا يتطلب ما تتطلبه الكتابة من جهد وتدريب لوجدنا كثيراً من الشعوب خرساً بكماً.

3 - أما الثقافة التي يتشرَّبها الناس عن طريق القراءة والكتابة فهي ثقافة الأقلية، وهي تالية في وجودها للثقافة الشفاهية أو الشعبية، فالناس في الأصل كانوا أميين، ويظلون أميين إلا أن يتعلموا القراءة والكتابة، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى حيث قال - سبحانه -: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: ٨٧].
وبما أن الثقافة الشفاهية تنزع دائماً إلى البساطة والمحدودية؛ فإن الناس يكونون متقاربين جداً في تمثُّلها والسيطرة عليها، أما الثقافة الكتابية فإنها تنزع إلى التعقيد الشديد، ولهذا؛ فإن الفرق بين شخص يقرأ ويكتب وشخص آخر يوصف بهذا الوصف؛ كثيراً ما يكون أعظم من الفرق بين الأمي ومن يعرف مبادئ القراءة والكتابة.

4 - تتشكل الثقافة الشفاهية من خلال العيش في مجتمع ومن خلال الممارسة والخبرة الشخصية التي يكتسبها الإنسان من خلال معاناته لشؤون الحياة المختلفة، ومع أن الثقافة الشعبية تستبطن نوعاً من التنظيم ومن المنطق، وتقبل شيئاً من الشرح والتفسير والتعليل، إلا أن وعي أصحابها بها يظل محدوداً؛ بسبب شحِّ الرموز والمصطلحات التي يمكن أن تساعدهم على اكتشاف ذلك. ولهذا؛ فإن الثقافة الشفاهية تتَّسم بنوع من الكتامة، ومن ثم فإن النفاذ إلى أعماقها من غير أهلها يظل أمراً عسيراً، كما أن اختراقها وتغيير بنياتها المختلفة يظل أيضاً صعباً، وإن كان هذا الأمر اختلف بعض الشيء بسبب الغزو الفضائي الرهيب الذي يجتاح العالم اليوم. ويمكن القول: إن ضعف تنظيم الثقافة الشفاهية، وإن صعوبة اكتسابها من غير معايشة أهلها؛ هما اللذان يوفران لها الحماية من عدوان الثقافات الأخرى، على حين يشكل التنظيم الجيد لاكتساب الثقافة الكتابية الطريق لاختراقها والسيطرة عليها، ولهذا؛ فإنك تجد أن المثقفين يكونون مستهدفين دائماً بالغزو الثقافي الخارجي، كما أن القوى الباغية والغازية كثيراً ما تتخذ من النخب الثقافية وكلاء محليين لترويج ثقافاتها ومصالحها، وهكذا نجد أن ضعف الثقافة الشفاهية هو الذي يؤمِّن لها درجة عالية من الحصانة والمناعة.

5 - حين تغلب الأمية وتسود الثقافة الشفاهية يحدث شيء سيِّئ، وهو ضمور ما كان من قبيل الرمزيات والمرجعيات الأخلاقية وتراجع دور (الوازع الداخلي) في توجيه السلوك، ويكون كل ذلك لصالح هيمنة العادات والتقاليد والأعراف التي يقوم المجتمع على صياغتها وحمايتها. وتلك الهيمنة تصل إلى حدِّ الاستعداد إلى قتل من يخرج عليها أو نفيه وإسقاط اعتباره ومقاطعته... مع أن تلك العادات والتقاليد قد تكون غير عقلانية ولا منطقية وبعيدة عن تعاليم الدين وبعيدة عن تحقيق المصالح المستجدة... وبعضهم يدرك ذلك لكن لا يستطيع اتخاذ أي موقف عملي؛ حتى لا يتعرَّض للنبذ والإقصاء. وأهل الثقافة الشفاهية معذورون في ذلك؛ لأن تدنِّي مستوى المعرفة لديهم يجعلهم يبحثون عن شيء ينظِّم العلاقات بينهم، ويحول بينهم وبين الاقتتال والبغي، وحينئذ فإن العادات والتقاليد تكون أقرب متناولاً من أيِّ شيء آخر. ونجد هذا التشخيص حقيقة ملموسة في كثير من البلدان الإسلامية اليوم، بل تجد ذلك في البلد الواحد، فأهل الثقافة الكتابية ومن أوتوا حظاً من العلم والرقي والتقدم الحضاري يتحدثون عن هيمنة العقيدة والتعاليم الربانية والضوابط الأخلاقـيـة والسـلوكــية التي جـاءت بـها الشريـعة الغـراء، أو يتحدثون عن رُؤاهم وقناعاتهم الشخصية، وما هداهم إليه بحثهم الخاص... أما الأميون وأشباههم ممن تضاءل حظهم من الثقافة المكتوبة فإنهم يشعرون أنهم موجَّهون من قِبَل ما تعوَّدوه، وهو شيء فوق النقاش، ولا حيلة في الخروج عنه ومخالفته، مع أن تلك العادات شيء ورثوه، ووضعته أجيال مرت بظروف وأوضاع مختلفة، وليس هناك أي ضمانة لصحة ما قاموا به. وهذه إحدى الضرائب القاسية للجهل والبعد عن تيار المعرفة والعلم والتقدُّم العقلي.

نشرت في مجلة البيان