من الواضح أننا جميعاً بحاجة إلى إعادة اكتشاف دور الموسيقى في التعلم والمساهمات الإيجابية الكبيرة التي يمكن أن تجلبها لنا. وقبل الخوض في هذا الموضوع لابد أن ننتبه إلى شيئين: الأول: لابد من الاطلاع على الأبحاث الحديثة في هذا المجال حتى نفهم دور الموسيقى الذي استثمره لوزانوف حتى نستطيع بعدها العودة إلى تراثنا وأصالتنا لإيجاد البديل الفعال. الشيء الثاني: لا تعني كلمة موسيقى ألحان المعازف فقط بل تشمل الإيقاع، والرتم، ولحن الصوت، والرنين، وأشياء أخرى كثيرة. بمعنى أن المعازف جزء من الموسيقى، وليست كل الموسيقى، وسنتابع سوية هذا الموضوع مع التأكيد على شمولية معنى كلمة "موسيقى".
يمكن تُعرّيف الموسيقى بأنها فن تنسيق الأصوات وترتيبها بشكل يمس الأفكار والأحاسيس. والموسيقى كما يعرفها قاموس Webster هي علم وفن تنظيم النغمات على أساس من التناغم، الانضباط والاعتمادية المتبادلة بين تلك النغمات. بهذا الفهم المحدد والدقيق يجب ألا نخلط بين الموسيقى كنغمات منتظمة من جهة، وبين ما يحدث من فوضى في استخدام هذه التقنية كما نراها في عالم اليوم من جهة أخرى. إذن نحن لا نتحدث عن تحويل الفصول التعليمية إلى حفل صاخب، بل إلى استخدام النغمات المنتظمة كتقنية مساعدة في التعلم بشكل أسرع.
تحدث أرسطو وأفلاطون عن دور الموسيقى في "تناغم الروح والجسد". وزاد أفلاطون على ذلك بأنّه: "لا يمكن أنْ نُحدِث تغييراً في الشخصية الموسيقية للأمّة ما لم نغيّر مؤسسات الدولة وعاداتها". كما نجد الفكرة ذاتها عند كونفوشيوس في قوله: "يسعى الإنسان المثالي للإرتقاء بالموسيقى إلى أعلى مستوى على أنها الطريق إلى تحقيق الكمال في الثقافة الإنسانية. فعندما تسود تلك الموسيقى تُوجّه عقول الناس باتجاه الطموح والمثاليات، ويمكننا عندئذ أن نشهد ولادة أمّة عظيمة".
وأدرك الشامانيّون[1] في روسيا الوسطى والروحانيون في الهند ذلك، إذْ كانوا يستخدمون الموسيقى لتحريض الدماغ من أجل الوصول إلى حالة ذهنية معيّنة منظمة ومن أجل التحكم بالألم. وكان قدماء الإغريق يربطون بين قراءة الكلمات والموسيقي، حيث يجتمع الناس كل أربعة سنوات، ثم يبدأ المحاضر بتلاوة الإلياذة برتم خافت يشابه ضربات القلب مستخدما القيثارة، وبعد انتهائه يصبح من السهل للحضور ترديد فقرات كاملة من الإلياذة من الذاكرة.
وللرياضيات أيضاً نصيب من الموسيقى، فقد آمَن فيثاغورت بأنّ الإيقاع الموسيقي يساهم في تناغم الإيقاع العقلي، حيث اكتشف التساوي في النسب الرياضية بين النسب المتناغمة والفروقات النغمية[2]. كما أوجَد فيثاغورث فلسفة "موسيقى الفلك"، إذ كان يعتقد أنّ السلّم الموسيقي مرتبط بشكل ما بحركة الكواكب ومواقعها. جميل أننا نناقش ثانية موسيقى الأجرام الكروية، لكننا لا نقصد هنا الأجسام الكروية في السماء، وإنما أنصاف الكرة (الأيمن والأيسر) في الدماغ!
ويبدو أنّ العلم اليوم بدأ يثبت بالدليل ما عرفته العصور القديمة بالحدس، فقد علمنا أنّ الموسيقى وباستخدام نمط معين من الإيقاع تؤدي فعلياً إلى حالة من الراحة الجسدية مع الانتباه ولكن باسترخاء دون توتر عصبي. حيث وجد الباحثون في علم النفس أنّ الموجات الدماغية من نمط ألفا هي غالباً الموجات الأساسية التي يولّدها الدماغ أثناء التأمّل. فكيف لو علمت أنّ ما يمكن للموسيقى أنْ تفعله في دقائق معدودة يحتاج لأسابيع كاملة من الممارسة الجدّية للتأمل؟ قال مندلسن: "لا يمكن أَنْ نُعبّر عن الموسيقى بالكلمات، ليس لأنها غامضة بل لأنها أكثر دقة منَ الكلمات نفسها".
الدكتور محمد ابراهيم بدرة
دار إيلاف ترين للنشر، كتاب التعلم الطبيعي، النسخة الأولى، المؤلف الدكتور محمد ابراهيم بدرة، 2012.
موسوعة التعليم والتدريب
http://www.edutrapedia.illaf.net/ara...e.thtml?id=939
المفضلات