الإيمان.. تلك القوة الخفية:

داخل الشخص الطموح طاقات مدخرة تستطيع عمل الكثير تجعله ينهض من كبوته إن سقط ويرتفع عن الأرض إن هوى تصديقًا لقوله تعالي: "وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ" (الذاريات: 21). وأيضًا: "وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا" (السجدة:24). وقال: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (آل عمران: 200).

فما كان الله -عز وجل- يعطي للكسالى نصرًا أو يمنح للعابثين الفلاح، بل من يعطي يأخذ حتى ولو كان كافرًا، اجتهد حتى يصل إلى ما يرغب وأخذ بكل الأسباب للوصول فكان من عدل الله أن يعطيه أجر ما اجتهد فيه في الدنيا فما بالك بالمؤمن، يقول عز وجل:

"وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ" (العنكبوت: 69).

الذين احتملوا في الطريق المشاق فلم ينكصوا ولم ييأسوا, الذين صبروا على فتنة النفس وفتنة الناس.

الذين حملوا أعباءهم وساروا في طريق طويل شاق غريب.

أولئك لن يتركهم الله وحدهم ولن يضيع إيمانهم وينسى جهادهم.

إنه سينظر إليهم من عليائه فيرضاهم.

وسينظر إلى جهادهم إليه فيهديهم.

وسينظر إلى صبرهم وإحسانهم فيجازيهم خير الجزاء.

ولذا تجد الطموح المؤمن في سعيه يقول:

وما استعصى على قوم منال

إذ الأقدام كان لهم ركابًا

وما نيل المطالب بالتمني

ولكن تؤخذ الدنيا غلابًا

وليس هذا وحسب بل:

وليس الخلد مرتبة تلقى

وتؤخذ من شفاه الجاهلينا

ولكن منتهى همم الكبار

إذ ذابت مصادرها بقينا

وأيضًا يقول:

لأستسهلن الصعب أو أدرك المني

فما انقادت الآمال إلا لصابر

من أين له هذا؟

من أين له بما يبعث فيه هذه الهمة وينبت في عقله وقلبه الآمال والغايات الكبار؟

من الإيمان:

الذي يمده ويعطيه القوة ويدفعه إلى الريادة المطلوبة.
الذي يحيي فيه العزيمة الميتة والآمال المدفونة الخامدة.
الذي يجعله يدرك ولادته الحقيقية الثانية، فالأولى حينما ولدته أمه رضيعًا والثانية حين أدرك حقيقة كونه عبدًا لله على كتفيه أمانة يجب توصيلها ولن تصل إلا بطموحه الجاد.
الذي يجعله ثابتًا على الحق والدفاع عنه والاستمساك به.
الذي يمده بالصبر في الأزمات حتى يأتي النصر الذي يرغبه ويحلم به ويسعى إليه.
الذي يكون في قلب الطموح ومصدر قوته، وما في القلب لا سلطان عليه بعد الله لغير صاحبه، فكما أن الطائر يطير بجناحيه كذلك يطير الطموح بهمته وعزيمته فتحلق به إلى أعالي الجبال طليقة من القيود التي تكبل الأجساد كما قال ابن قتيبة: «ذو الهمة إن حط فنفسه تأبي إلا علوًّا كالشعلة من النار يصوبها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعًا».
الذي يعطي القوة النفسية للطموح، فالمؤمن الطموح همته العالية لا تعطي الدنية ولا تقنع بالسفاسف فهذا يوسف بن يعقوب عليهما السلام يقول:

"رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ" (يوسف: 101).

يا رب قد آتيتني السلطان والمكانة والجاه والمال.

يا رب قد آتيتني إدارك الرؤى وتعبيرها وذلك من نعمة العلم.

يا رب لك القدرة وأنت الناصر والمعين.

يا رب تلك نعمتك وهذه قدرتك.

يا رب تتوق نفسي أن أموت مسلمًا وأن ألحق بالصالحين.

قلت للصقر وهو في الجو عال

اهبط الأرض فالهواء جديب

قال لي الصقر: في جناحي وعزمي

عنان السماء مرعى خصيب

ولذا فهو يردد:

إذا ما كنت في أمر مروم

فلا تقنع بما دون النجوم

فطعم الموت في أمر حقير

كطعم الموت في أمر عظيم

فهذا نبي الله أصبح يملك العلم والجاه والسلطان ولكن مازال طامحًا تتوق نفسه أن يموت على الإسلام وأن يكون مع صحبة الصالحين، ويسعى لهذا ويتقوى بنفسه على نفسه بقوة ذاتية نفسية مصدرها الإيمان الذي لا يخبو، يؤكد قدره الله عز وجل على كل شيء.

الذي يجلعه يتسابق إلى المكارم دون كلل أو ملك أو قنوط: «وهل يقنط من رحمه ربه إلا الظالمون الكافرون».
وجد القنوط إلى الرجال سبيله

وإليك لم يجد القنوط سبيلاً

ولرب فرد في سمو فعاله

وعلوه خلقًا يعادل جيلاً

الذي يقود المخ ويخبره يكفيه تمثيل ما يحدث فيعطي الفرد القوة التي تجعله تعادل عددًا من الأشخاص إن لم يكن أمه فيتفوق على الغير، فهذا أبو بكر الصديق كان إيمانه بالله تعالى باعثًا عل الحركة والهمة والنشاط والسعي والجهد والمجاهدة، وكان في قلبه من اليقين والإيمان شيء عظيم لا يساويه فيه أحد من الصحابة كما قال أبو بكر بن عياش: «ماسبقهم أبو بكر بكثرة صلاة ولا صيام ولكن بشيء وقر في قلبه».
ذُكر هذا في فضائل الصحابة للإمام أحمد ولهذا قيل: لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح. أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن عمر رضي الله عنه.
فكان هذا الإيمان هو الخريطة والبوصلة التي ترشده إلى أهدافه ويمنحه الثقة بالوصول إليها فكان قراره في محاربة المرتدين ومن قبلها في الثبات عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدها في وضع خطة الفتوحات للعراق والشام واستخلاف عمر بن الخطاب عند مماته، وحينما قال له طلحة بن عبيد الله: ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر عليه وقد ترى غلظته؟ فقال أبو بكر: أجلسوني، أبا لله تخوفونني؟ خاب من تزود من أمركم بظلم، أقول اللهم استخلفت عليهم خير أهلك. ثم بيَّن له إلى أن غلظة عمر وشدته لأنه وجد أبا بكر رقيقًا ولو أفضى الأمر إليه- أي تسلم الحكم- لترك كثيرًا مما هو عليه وقد صدق في هذا بالفعل.