لم أستطع أن أعجب بشخصية محمد على باشا , فالرجل بأفعاله وتجبره وضع بيني وبينه ألف حاجز!

صحيح أنه بني مصر الحديثة , وحجز لها مكانا بين أمم الشرق والغرب , فسطع اسمها من جديد بعد سنوات من الغرق في بحور النسيان أيام الحكم العثماني.. ورغم تلك النهضة , إلا أنه أهمل أهم ركن في تشييد الحضارات , وهو الإنسان.

فالباشا الكبير شاد القصور , وحفر الترع , وبث الحياة في التعليم , وأدار ماكينات المصانع , وأجري السفن في البحار والأنهار تحمل التجارة , وشاد إمبراطورية مصرية ضمت شبة الجزيرة العربية والسودان والشام وجزيرة كريت..
لكنه في سعيه لمجده هدم الإنسان المصري , وقتل روحه.

وإليك هذا النبأ لعلك تشاركني فيما أري..

فكر باشا مصر في إعادة شق ترعة المحمودية لتحمل الماء العذب إلى الإسكندرية , ولتصبح طريقا تجاريا بين القاهرة وميناء مصر على البحر المتوسط. وكانت الرمال والأتربة قد طمرت الترعة في الأزمان السابقة, فعزم الباشا على إعادة إحيائها , فانظر ماذا فعل؟

كلف الباشا زبانيته , فجاسوا خلال الديار , فساقوا أمامهم بالسياط أكثر من 300 ألف فلاح , مكبلين في الأغلال ! ليعملوا شهور طوال بالسخرة , يقتاتون على أقل الطعام .. تحرق حلوقهم حرارة الصيف.. ويجمد البرد أطرافهم في الشتاء.. وعلى ظهورهم تنطبع آثار السياط تنبئهم أن الجلاد لا يرحم من يتهاون في العمل!

وفي مدة عشرة أشهر فقط سقط اثنا عشر ألفا شهيدا , دفنوا على ضفتي الترعة تحت أكداس التراب الذي كان يرفعونه من قاعها , ومعظمهم مات من قلة الزاد والمؤونة أو من الإعنات في العمل بلا هوادة ولا رحمة من طلوع الفجر وحتى تغرب الشمس , وسوء المعاملة من الجنود القساة المنوط بهم حراستهم.

المؤرخ الجبرتي في كتابه البديع "عجائب الآثار" يصف في كلمات حزينة ما أصاب أبناء مصر على يد محمد على
فيقول " كانوا يربطونهم قطارات بالحبال وينزلون بهم المراكب , وتعطلوا عن زرع الدراوي الذي هو قوتهم , وقاسوا شدة بعد رجوعهم من المرة الأولي بعدما قاسوا ما قاسوه , ومات الكثير منهم من البرد والتعب , وكل من سقط أهالوا عليه تراب الحفر ولو فيه الروح ".

أي وحشية تلك؟! وأي حيوانية تسيطر على القلوب؟!

ومع تلك الصورة المحزنة , لن نعدم مؤرخا وكاتبا يدافع عن الحاكم - وأي حاكم - , معددا الفوائد والثمرات التي جنتها البلاد من أعماله وكفاحه في أعمار البلاد وإصلاح أحوال العباد!!

وهؤلاء.. نهديهم تلك الكلمات..
تخيل لو كان جدك أحد هؤلاء المساكين الذين سقطوا إعياء , وهم يحملون الطين من قاع الترعة إلى ضفتها , فإذا التراب يهال عليه ليدفن حيا؟!
ولنعود بالمشهد قليلا إلى الوراء..
تخيل الآن..جند الباشا يهجمون على القرية الآمنة الساكنة , ينتزعون الفلاح من حقله .. يكبلونه بالسلاسل.. يسوقونه كالماشية .. ينظر بعين دامعة إلى أرضه.. من يعني بهما من بعده؟..ومن لولده وزوجه؟!..ومن يسد رمقهما؟!..وهل سيراهما ثانيا؟!..هل ستكتب له الحياة من جديد أم يدفن تحت التراب؟!

ما أقصده يا صديقي هنا.. ليس أن تكن الحقد على محمد على باشا , أو أي حاكم وسلطان وملك وأمير , وإنما أن تجعل الإنسان وبناءه وتشييده , هو معيارك للحكم والتقييم , فالإسلام جاء ليبني الإنسان ويكرمه , ويفضله على سائر المخلوقات , وليكون سيد الكون.

انظر يا صاحبي إلى النبي صلي الله عليه وسلم في تعامله مع الإنسان وكيف سما به إلى مراتب الكرامة , وحتى ولو كان مشركا ..
الإمام مسلم في صحيحه يروي أن رسول الله مرت به جنازة فقام واقفا , فقال له الصحابة: إنه يهودي!
فقال: "أليست نفسا".

ألا ما أروع هذا الموقف..

الحبيب يعلمنا أن نحترم النفس الإنسانية على الإطلاق , حتى أنه قام واقفا لجنازة تحمل يهوديا , وحينما قال صحابته أنها ليهودي , أي من القوم الذين عدوك وحاولوا اغتيالك مرات عدة , وألبوا عليك قبائل العرب , قال لهم بمنطق حاسم " أليست نفسا".

إنه الاحترام للنفس الإنسانية.

وحينما يُقتل عمه حمزة في أحد , وتبقر بطنه وسبعين من صحابته الكرام , أقسم النبي × ليمثلن بجثث سبعين من قريش إذا ظفر بهم.. لكن النفس الموصولة بالسماء تستكين بعدل ربها.. وينزل قوله تعالي " وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ".
هذا هو رسول الرحمة..

ومن بعده , جاء ملوك وسلاطين تسموا باسم الإسلام وزعموا أنهم يحكمون بشرعه , فإذا هم يستحلون القتل والتمثيل بالجثث..
ألم يكن غريبا ومدهشا في التاريخ الإسلامي وبلادنا الإسلامية أن يدخل رجلا على السلطان فيقول كلمة يغضب لها الجالس على العرش.. فيدفع الرجل حياته ثمنا لها..هكذا ببساطة وبأمر بسيط من السلطان يلق الناس موتهم دون تحقيق أو محاكمة أو قاضي عادل يستمع للقضية.

أيحدث هذا في بلاد الإسلام وباسم الإسلام!
ألا ما أبعد الشقة بين نبي الرحمة , والملوك الذين حكمونا باسم الإسلام!

يا صديقي...
حديثي ليس نبشا في الماضي , فقد تكرر وسيتكرر في كل عصر , إذا تحزبنا نحن للحكام ندافع عنهم ونبرر لهم , لا أن نقول لهم أن دماء الناس "
حرام عليكم كحرمة شهركم هذا في بلدكم هذا". كما أوصانا الحبيب × في خطبة الوادع , يلقي إلينا بالنبأ الهام لعلنا نحفظه ولا نضيعه.

الخلاصة: أعرف يا صاحبي مقدار حرمة النفس الإنسانية..ولا تكن أبدا ممن يسوغ لقتلها , فتكون من الظالمين.

إضاءة جانبية:
مما يُروي أن الإمام أحمد بن حنبل عليه رحمة الله حينما كان مسجونا في محنة "خلق القرآن" بأمر من السلطان العباسي , سأله السجان: هل أنا من أعوان الظلمة؟ فقال له الإمام قولا يستحق كل التأمل والتدبر: لا.. إنما أعوان الظلمة من يخيطوا لك ثوبك , ومن يطهو لك طعامك..أما أنت فمن الظلمة أنفسهم!