إن القليل الذي نعرفه عن الحب لا يتجاوز الملاحظة البسيطة، والقليل الذى نكتبه عنه كتب الشعراء والروائيون أفضل منه، ومع ذلك فالمهم هو حقيقي أن علماء النفس يقل اهتمامهم بصورة متزايدة بذلك الدافع الذي يسود حياتنا بالكامل؛ فعلماء النفس- أو مؤلفو الكتب الأكاديمية منهم على الأقل- لا يقتصرون على عدم إبداء اهتمام بأصل الحب والعاطفة وتطورهما فحسب، بل يبدو أنهم لا يدركون وجودهما أصلاً " .


هاري هارلو
في عام 8591، انتخب " هاري هارلو " الباحث في الحيوانات العليا رئيسا للجمعية الأمريكية لعلم النفس، وفي نفس العام زار مدينة واشنطن، حيث تعقد الجمعية اجتماعها السنوي ليقدم ورقة بحثية عن تجاربه الأخيرة على القرود.

وفي خمسينات القرن الماضي، كان علماء النفس السلوكيون يسيطرون على الجمعية الأمريكية لعلم النفس، والذين كانت تجاربهم الكثيرة على فئران المعامل تستهدف إظهار مدى سهولة تشكيل البيئة لمخ الحيوانات الثدية، أما " هارلو " ، وزوجته " مارجريت " ، فقد عارضا القاعدة الثابتة بدراستهما للقرود التي كانا يعتقدان أن دراستهما لهل ستمنحهما أفكاراً أكثر دقة عن السلوك الإنساني. ورفض " هارلو " - الذي كان مباشراً في حديثه أيضاً- استخدام مصطلحات مثل " القريبة " عندما كان يتحدث عن الحب، حيث قال لحضور المؤتمر:
" الحب حالة تبعث على العجب، وعميقة، ورقيقة، ولها مردودها. ونظراً لطبيعته الحميمة اللصيقة؛ فإن البعض يعتبر الحب موضوعاً لا يناسب البحث التجريبي، ومع ذلك فإن أية مشاعر لدى البشر يمكن بحثها تجريبياً؛ لأن مهمتنا كعلماء نفس هي ان نحلل كل جوانب السلوك لدى الإنسان والحيوان إلى مكوناتها المتغيرة. وفيما يخص الحب أو العاطفة، فقد فشل علماء النفس في هذه المهمة.
وتقول المدرسة السلوكية في علم النفس إن ما يحرك البشر هو دوافعهم الأساسية مثل الجوع، والعطش، والألم، والجنس، وأن الدوافع الأخرى- بما فيها الحب والعاطفة- دوافع ثانوية، وبذلك فقد قلل أتباع هذه المدرسة من قيمة الحب في تربية الأطفال لصالح " التدريب " ، ولم يكن هناك إدراك كبير في ذلك الوقت لما نعرفه حالياً من أهمية التواصل البدني مع الأطفال الرضع.
وقد قلبت ورقة " هارلو " البحثية، والتي كانت بعنوان " طبيعة الحب " كل ذلك التوجه راساً على عقب، فقد أدى تأكيد البحث على رفض اعتبار الحب مجرد " دافع ثانوي " إلى أن أصبح ذلك البحث واحداً من أهم البحوث النفسية على الإطلاق.

الطعام، والشراب، والحب

وقد اختار " هارلو " العمل على صغار القرود؛ لأنها اكثر نضجاً من الأطفال الرضع، وأوضح أنه لا يوجد إلا اختلاف بسيط بينها وبين الأطفال الرضع من حيث كمية رضاعتها، وتشبثها بأمهاتها، واستجابتها للعاطفة، بل وسمعها ورؤيتها، واكتشف أن طريقة التعلم، بل وكيفية استشعار الخوف والاحباط متشابه بين الاثنين.

ولاحظ أن غياب تواصل هذه القرود مع أمهاتها يجعلها أكثر تعلقًا بتشكيلات قماشية (والتي لم تكن بالوسائد القماشية التي كانت تغطي أرضية الأقفاص الصلبة. وعند إزالة تلك الوسائد على فترات منتظمة لوضع وسائد جديدة كانت صغار القرود تمر بنوبات غضب. وقد لاحظ " هارلو " أن رد الفعل هذا كان أشبه بتعلق الأطفال الصغار بوسادة أو بطانية أو دمية معينة. ومن المذهل أن البحث قد كشف عن أن صغار القرود التي نشأت في أقفاص لا توجد بها تشكيلات قماشية تتعلق بها قلت فرص بقائها على قيد الحياة لأكثر من خمسة أيام. وكان يبدو أن وجود أشياء تتشبث بها القرود مسألة إحساس بالراحة فحسب، ومع ذلك فقد كانت تلك الأشياء عاملًا مهمًا في بقاء تلك القرود الصغار على قيد الحياة في حالة غياب أمهاتها.

وكان تفسير السلوكيين لهذا أن الرضع- سواء كانوا قرودًا أو بشرًا- يحبون أمهاتهم بسبب الغداء بإرضاعهن لهم؛ فالطعام حاجة أساسية والأمهات تشبعنها لهم. ولكن ما رآه " هارلو " مع التشكيلات القماشية جعله يتساءل إن كان الرضع يحبون أمهاتهم لشيء آخر غير اللبن الذي يمنحنه لهم كالدفء والعاطفة مثلًا، وأنه ربما كان الحب حاجة أساسية مثل الطعام والشراب.