الثقة بالنفس ترقى بالروح المعنوية وتعزز وتيرتها



إن التربية الذاتية هي المقياس الأساسي لسلوكيات الأفراد، ووراء كل ما يصيب الفرد من نجاح أو فشل في حياته الإجتماعية. وقد تنحصر التربية الذاتية -سواء كانت فردية أو جماعية - في تهيئة الظروف الفعلية للإنطلاق والمشاركة في مجالات الحياة، ولكنها في المقابل تتوجه الى الإهتمام بالحياة لشخصية للأفراد من جميع جوانبها، خاصة في مراحل الطفولة الأولى، حيث يتلٍقى الطفل أول الدروس في السلوك والطباع. وتربية الذات تشمل أيضاً تهذيب النفس وصقلها بالقيم الأخلاقية وتدريبها للمضي قدماً في الإتجاه السوي، وتخلق في الطفل قناعات قد تكون إما زائفة أو مبنية على أسس سليمة.
إن التفكير في واقع الطفولة والعناية بها، يدل على الإهتمام بمستقبل الجيل وعلى الرغبة في تهيئة طاقات بشرية صالحة ومنتجة، وقادرة على تحمل المسؤوليات في قيادة المجتمع والرقي بأحواله. ومرحلة الطفولة من أهم المراحل لأن خصائص الشخصية وسماتها، وطبيعة الذكاء، والإتجاهات والقيم التي يتمسك بها الفرد، تحدد كلها في هذه المرحلة. لذلك أجمع علماء النفس والإجتماع، على أهمية دراسة هذه المرحلة ومتطلباتها، وكشف الستارة عن دور الأهل ومسؤولياتهم في إطار إعداد الطفل وتأهيله سلوكياً وإجتماعياً.
نحن نعرف أن الطفل يمر منذ الولادة حتى سن الرشد بسلسلة من الأزمات يعتبرها علم النفس طبيعية وضرورية لاستكمال النضج وتحقيق نمو سليم، وأكثر ما يسيء الى الطفل هو تعرّضه للإضطرابات النفسية التي تدل على توقف النمو، أو على إنهيار الوسائل الدفاعية وفشلها في مواجهة الضغوط الطارئة، من هنا تظهر الحاجة الى إجراء دراسة لتقييم أسباب الإضطرابات النفسية، آخذين في الإعتبار ملابسات الطفولة. إن سبيلنا لتنشئة أجيال صالحة هو، نشر الوعي التربوي بين الأهل، وتبصيرهم بالآثار النفسية لكثير من الأنماط السلوكية التي تؤذي إنطلاقة الطفل وتدفعه الى السلبية؛ وقد يتساءل البعض:
ما هي الفرص المتاحة للطفل لإنماء قدراته النفسية وطاقاته المبدعة؟ ماذا عن الوضع النفسي وانعكاساته على بناء الشخصية؟ ما هو الدور الذي تلعبه الثقة بالنفس في حياة الأفراد؟
القلق، العناد، السلبية، التردد، الخجل والإحساس بالنقص، مظاهر تجعل الفرد محاطاً بهالة من الفراغ والإنطوائية، وتعود في الواقع الى أسباب متشابكة، ما هي؟
كيف نساعد أولادنا في اكتساب شخصية ناضجة؟
ماذا عن الأسباب البيئية ودورها في تشكيل شخصية الفرد؟ أسئلة نحاول أن نقدّم لها أجوبة شافية ومقنعة، تخدم الطفولة وتجد حلولاًلمشكلات النشء الطالع النفسية والإجتماعية.

الثقة بالنفس شرط أساسي للنمو المتكافئ


إن العامل الأشد أهمية الذي أكد عليه علم النفس واعتبره شرطاً أساسياً في بناء الشخصية الناضجة هو: «الثقة بالنفس»؛ ويقول «فرويد»: «... إن الثقة بالنفس تشكل دعماً للشخصية في وجه التحديات، وإنعدام الثقة بالنفس تجعل الفرد يعيش حياة هامشية لا معنى لها ولا هدف منها يُرجى». وينتقل «سيغموند فرويد» الى نظرية يؤكد فيها، أن الإنسان حين يفقد الثقة بنفسه يعيش بذات غريبة عنه، وتتشكل لديه حالة قصوى من اليأس والإحباط، ما يؤثر في طباعه ويجعله يعيش في صراع يهدد أمانه السلوكي.
إن السيطرة على النفس تشكّل قمة النضج في الشخصية، والثقة بالنفس أشبه بسلاح معنوي يمثل قوة خفية تحمي الإنسان من شر نفسه أولاً، وتقيه تالياً من متاهات الإنحراف وتجارب الفشل، هذا ما أشار إليه العلامة «فرويد» في كتابه «قلق الحضارة»، وأضاف قائلاً: «... أن نحب أولادنا، هذا يعني أن نساعدهم في الوصول الى أعلى مستوى من الرشد والنضوج، وأن نحترم احتياجاتهم وميولهم النفسية والذهنية، فهذا يخلق فيهم شعوراً بالثقة بالنفس وبالآخر، وهو شرط أساسي للنمو المتكافئ، فحين يجد الطفل أن حاجاته المعنوية والنفسية تجد طريقها الى الإشباع والتلبية، يمضي في طريقه بثبات. كما ينبغي أن لا نُعرّض الطفل الى تقييم الظاهر والسطحي من الأمور، كي لا يُصبح مفرط الحساسية لملاحظات الآخرين وانتقاداتهم، فذلك يجعله يشك بنفسه ويقع فريسة الإرتباك، وهنا تتمثل الحاجة الى رفد المنابع النفسية التي تتبنى تحصين الشخصية بالمحفزات التي تضمن لها الصمود في وجه التحديات، خاصة، في بدايات عمر التلقي وسن المراهقة (من سن العاشرة الى الثامنة عشرة)، ونحن حين نتكلم عن الثقة، فهذا يعني وجود العلاقة مع الآخر والعالم الخارجي، وهنا مسؤولية الأهل، ونشير الى أن لتجارب الطفل تأثيراً واضحاً على نمو الثقة أو عدم نموها.
إنعدام الثقة خطر معنوي
إن الإنسان الناضج هو الذي يثق بنفسه ويعرف ماذا يريد وكيف يتصرف، ويعترف بالآخرين ويثق بهم، وتسود حياته الإلفة لا العزلة، والإنتاجية بدل الجمود والتفاؤل بدل اليأس، ويشق طريقه خطوة خطوة. ويخطئ كل إنسان يشك بقدرته الذاتية إذا ما أخطأ أو قصّر، فالشك يجعله متردداً، ويولّد لديه نزعة الخجل وهي حالة
تشيّع الإرتباك في السلوك. ويقول «فرويد»: إن الخجل يجعل الإنسان يعيش في حالة من الإزدواجية بين فاعل ومشاهد، منفّذ ومراقب، فإذا أنجز عملاً وقف منه موقف الناقد وتساءل عن صحته وعن رأي الآخرين به، وهذا يسيء إليه معنوياً ويحد من إندفاعه وعزيمته، لأن مراقبة الذات بصورة مستمرة تعطّل كل عفوية وتحدث شرخاً في الشخصية، وتؤدي الى إخماد الحيوية. فالخجول يشعر بإستمرار أنه معرّض لنظرة الآخرين وانتقادهم فينتابه القلق والإرتباك جرّاء ذلك التصوّر. من هنا لا بد أن نهتم بشؤون أولادنا ورفاههم النفسي، لأنهم يشكلون القلب النابض في المجتمع.
وفي هذا السياق، نلفت الى أن أحد المطالب الرئيسية لجيل الشباب يكمن في تحرير الرغبات التي تحجبها نماذج مفروضة فرضاً، تؤدي به الى الإرتباك والى الإتكالية والكسل وتقويم المبررات لنفسه بأنه لن يستطيع الوصول مهما حاول إن لم يجد دعماً من الآخرين. وهذا يظهر أهمية خلق شعور بالثقة في جيل الشباب، شعور قوي وصلب يسوقهم الى الطمأنينة والإستقرار المعنوي والسلوكي، لأن البناء المعنوي للفرد يتضمن إحتمالات متنوعة تثير فيه التفكك والترابط وتؤدي به الى التغير المستمر؛ وغرائز الفرد وقواه الطبيعية هي المعيار الأساسي لكل نشاط يقوم به.
دور الأهل وانعكاساته على مستقبل الأبناء
في ضوء الطروحات التي قدّمها علم النفس، لمسنا أن الثقة بالنفس هي التي ترقى بالروح المعنوية وتعزز وتيرتها، وأن كل إنسان يتمتع بروح معنوية عالية هو إنسان متفوّق سلوكياً وإجتماعياً، وأن الواثق من نفسه هو إنسان مؤهل لأن يقطف ثمار التكامل المطلوبة في الشخصية الإجتماعية، ودور الأهل هنا يكمن في توفير المناخات النفسية والبيئية التي تضمن للأبناء إستقراراً نفسياً مشحوناً بالثقة والنضج الذاتي.
ويقول «فرويد»: يجب أن نساعد الطفل كي يصير راشداً، ناضاً، ومسؤولاً عن ذاته ومجتمعه، فالطفل بحاجة الى الرعاية والمعاملة القائمة على الفهم النفسي، وهذا يتوقف علي مدى وعي الأهل وسعة حكمتهم في تربية الأبناء... ويشرح محذراً: أن نحب الطفل لا يعني أن نحتضنه بإفراط، لأننا بذلك نحول دون تحقيق النمو المطلوب، فالحماية المفرطة تنتقص من قيمة الطفل وتقوّض في العمق ثقته بنفسه، وتنشئ لديه مشاعر الدونية والنقص، فالثقة بالنفس لا تنمو لدى الإبن إلا إذا شعر بثقة أهله به، عبر إفساحهم له مجال المبادرة وامتناعهم عن القيام عنه بواجباته أياً كانت الذريعة، إذ من الأفضل أن يفعل الولد شيئاً - ولو تقريباً - بمبادرته الذاتية من أن ينجز أهله أموره بدلاً عنه.. وفي المقابل، حذار أن نضع الولد قبل الأوان أمام مهمات تتجاو ز حدود طاقاته، فهذا شيء مرفوض، والمطلوب أن نساعده على تنمية روح المبادرة لديه وليس أن نرهق طاقاته، فنحن حين نترك للولد المجال لمبادرة ذاتية فهذا الأمر يشجعه ويدعوه الى الإفتراض بأنه موثوق به.
إن الإستجابة الأشد خطراً التي يمكن أن نثيرها لدى الطفل بحمايتنا له، إنما هي العجز ليس إلا. طبعاً، ليس المطلوب ترك الطفل وشأنه أو تعريضه فجأة لصعاب الحياة، بل يجب أن نعرف كيف نتصرف ونواجه المواقف بتروّ، فبدلاً أن نكون له ترساً يحتمي الولد وراءه، ينبغي أن نكون ذلك الغربال الذي يقطّر خبرة الحياة وفق مقادير يستطيع الطفل أن يتحملها، فلنكن دوماً متنبهين للفرص التي تسمح لنا بالتواري لتمكين الطفل من اختبار قدرته، والشاب من اختبار طاقته ولنكن مستعدين للتدخل حين تصبح المشكلة تفوق امكانياتهم.
البيئة وتأثيرها
ان طبيعة العلاقة مع الأسرة والمحيط تؤثر في سلوكية الأبناء، فنرى أن الأطفال الذين يعانون من الحرمان العاطفي في حدود أسرهم، ومن إهمال الأهل ولامبالاتهم، غالباً ما يشعرون بالإحباط ويفقدون الثقة بالنفس، ويتحولون الى اتخاذ مواقف سلبية تنعكس على علاقاتهم بوضوح، وهنا نلفت الى أن ميل الطفل الى الإعتماد على الآخرين إنما هو نتيجة لعلاقة مضطربة مع الأهل، كما أن تفضيل أحد الأبناء على الآخر يجعل الطفل يواجه صراعاً مع ذاته ويفقد ثقته بنفسه إذ يشعر أنه غير مرغوب فيه، ويبدأ بالبحث عن الأسباب ويصبح عدوانياً ليجذب إنتباه أهله. والمطلوب هو:
تدريب الأهل على تعزيز شعورهم بذاتهم، فمثلما يكافئ الكبار أنفسهم برحلة ترفيهية بعد إنجاز عمل صعب، فإن الصغار أيضاً يحتاجون أن نعطيهم مكافأة ليشعروا بإعتزاز إثر قيامهم بسلوك صحيح.
إذا تصرّف الولد تصرفاً خاطئاً يجب تحذيره بهدوء من دون الوقوف عند هذا التصرّف وعدم التركيز عليه، أي أن نقوم بتوجيهه الى الفعل الصحيح من دون اللجوء الى معاقبته بشدة.
توجيه الأبناء الى القيام بالأعمال الصالحة، ويجب أن تكون التعليمات دقيقة ومحددة وتشير بالضبط الى ما يجب فعله. عدم حرمان الطفل من التعبير عن رأيه، وتهيئة أفضل الأجواء الترفيهية التي تساعد على رفع الروح المعنوية للأبناء.
إن لكل طفل مفتاحاً لشخصيته، فالحزم مع طفل قد لا يجدي مع طفل آخر، وليس صعباً على كل أب وأم معرفة مفتاح شخصية ولدهم، وذلك يتطلب وعي الأهل وانتباههم ومرونتهم في التفكير والتصرف.


شباب اليوم وأزمة الثقة بالنفس
البعـض من شبابنا يميـل الى العزلـة وعـدم الإختـلاط بالمجتمعـات ويحتاجون الى من يوجههم دوماً الى ما يفعلون، لأن الشاب الذي يعيش منعزلاً تنقصـه الخبرة في التعامل مع المجتمع، والسبب مرده الى أن بعض الآباء يعاملون أولادهم بطريقة تجعلهم إتكاليين غير قادرين على الإعتمـاد على النفس ويشعرون بالحاجة الماسة الى معونة الآخرين..
وفي هذا يقول أربـاب علم النفس والإجتماع: حين يتعـامل الأهل مع أولادهم كأشخاص فاشلين لا يستطيع الأبناء شـق طريقهـم منفرديـن. وهذه المعاملة تخلق شبيبة معقدة، لأن الفـرد يكتسب أنماطاً سلوكية معينة نتيجة احتكاكه مع الآخرين وتفاعله الإجتماعي ومشـاركاته، وهذا التـفاعـل له أكبر الأثر في جعل الشباب
يأخذون قراراتهم بأنفسهم لأن التفاعل يكسبهم خبرة في التعامل.
إن الإنسان لا يمكنه أن يبني شخصيته خارج المجتمع وبمعزل عن الآخرين، لذلك تعوزه الثقة بالنفس كونها تساعده في المشاركة والمواجهة بعقلانية وانفتاح، فالمرء الواثق من نفسه يتوصل الى السيطرة على الفوضى في حياته الشخصية، ويتفوّق في علاقاته الإجتماعية.
وصفوة القول: نحن لا نريد جيلاً يعيش في عزلة نفسية - إجتماعية، بل ما نريده هو جيل واثق من نفسه، يملك القدرة على الرؤيا الواضحة ومواجهة العالم الخارجي بأهدافه وتحدياته