بسم الله الرحمن الرحيم

إذا كانت سنوات الطفولة الأولى هي المرحلة التي يتأسّس فيها بناء شخصيّة الإنسان، فإنّ سنّ المراهقة سنّ المنعطفات والمفاجآت والتّحوّلات المضطربة، وهي سنّ تتميّز بالنّمو البدني والنّفسي والاجتماعي والعقلي... وإن كانت مراحل العمر الأخرى لا تخلو من منعطفات ومفاجآت، واستمرار في النمو. المراهقة بين اللغة والعرف وعلم النفس
يُقال -في اللغة- رهِقَه إذا دنا منه. وفي الحديث: ".. وإذا صلّى أحدكم إلى شيء فليَرْهَقْه" [أي ليقترب المصلي إلى السترة التي أمامه]. وصلّى الصلاة مراهقاً: أي مدانياً للفوات، في آخر وقتها. وأرْهَقَ الليلُ: دنا. ورَهِقَه الدَّيْن: لَحِقَه وغَشِيَه. وصبيّ مراهق: مُقاربٌ للحُلُم، وهو أقرب المعاني إلى ما نبحث فيه. أما في العرف فالمراهق هو الذي وصل إلى سنّ الحلُم ولم يُجاوزه كثيراً (فسنّ المراهقة عُرفاً يبدأ بالرابعة عشرة أو الخامسة عشرة ويستمر إلى الثامنة عشرة).وفي علم النّفس يُقصد أحياناً بالمراهقة ما يُفهم منها في المعنى العرفي (أي ما فوق سنّ البلوغ بقليل)، ويُفصّل أحياناً بين ثلاث مراحل للمراهقة وهو ما نعتمده في هذا البحث:
ـ المراهقة المبكرة وهي تتناول نحو ثلاث سنوات تسبق البلوغ (وتلتقي مع المعنى اللغوي للمراهقة).
ـ المراهقة الوسطى وهي تشمل السنوات الثلاث التي تبدأ مع البلوغ (وهي تلتقي مع المعنى العرفي السائد).
ـ المراهقة المتأخِّرة وتتناول نحو ثلاث سنوات بعد ذلك، أي سنوات العمر الثامنة عشرة والتاسعة عشرة والعشرين، وربما وراء ذلك سنة أو اثنتين أو ثلاثاً!

المراهقة المبكرة
وتمتد هذه الفترة بين عمر 11 و14 سنة تقريباً، وتمتزج في نفس المراهق مزيج من مشاعر الطفولة ومشاعر الشباب، فهو –من ناحية- يرغب أن يَهتمّ به ذووه ويدلّلوه كما لو كان طفلاً، ويرغب أن يثقوا به ويمنحوه قدراً كبيراً من التصرف في شؤون كثيرة، كما لو كان شاباً! وهذا التمازج غير المتجانس يُسبّب إرباكاً للأهل في معرفة الأسلوب الأمثل مع ابنهم المراهق.
وتبدأ في هذه الفترة بعض المظاهر "النفسية-السلوكية" التي ستتوضّح أكثر في المرحلتين اللاحقتين من مراحل المراهقة.
فمثلاً يبدأ المراهق بالشعور بضعف الثقة بمظهره الخارجي، ويعمل على لفت الأنظار إلى نفسه، ويظنّ أنّ الآخرين ينظرون إليه باهتمام ويلحظون ما يظهر عليه من تغيّرات.
ويُريد أن يُحقّق ذاته عن طريق تأكيد تفرُّده واستقلاله، فيُظْهِر تبنّيه لأفكار مخالفة لأهله وذويه ومجتمعه، وقد يبقى هذا في حدود معقولة، وقد يتجاوز ذلك إلى التحدي السافر والمروق، وخاصة إذا لم يجد معاملة حكيمة من بيئته.
ويميل إلى أن يجتمع مع "شلّة" من أقرانه، وربّما مع آخرين أكبر من سنّه. على أن لا يكون بين هؤلاء أحدٌ من أهله... وحين لا يكون مع هؤلاء فإنّه يُحبّ الانفراد في حجرة داخل بيته.
وفي هذه المرحلة ينبغي على الأهل تفهُّم هذه النّزوات، والتّغاضي عن كثير من الشّذوذات إلاّ أن تتعدّى حدود الدّين والأخلاق بشكل واضح فعندئذٍ لابدّ من التناوب بين الحزم الصارم، والنصح الهادئ.

المراهقة الوسطى
وتمتدّ نحو ثلاث سنوات بدءاً من البلوغ الفعلي. وفي هذه المرحلة يتضخّم شعور المراهق بالاستقلال، والمطالبة بمدى أوسع من الحرية، والسّعي لفرض آرائه على من حوله، ممّا يجعله يبدو كثير الصِّدام والخصومة، وقد يُحاول تجريب بعض الأمور الممنوعة كالتّدخين ومصاحبة بعض المشبوهين والسَّهر خارج المنزل، وقد يُفاخر بالشّاذ من الآراء والأخلاق والتّصرفات! ويميل غالباً إلى الأمور التي تتحمّل المجازفة والمخاطرة.
فإذا أراد الله خيراً بهذا المراهق، هيّأ له أن تكون مواقفه وتوجّهاته ضمن ميادين الخير... فمثلاً يُحاول تقمّص شخصيات الأبطال المجاهدين، أو العلماء الباحثين... وإلاّ فقد يتّبع "الصَّرْعات" وأرباب الفساد من الممثّلين وأصحاب الآراء والمذاهب الشاذّة.
وإذا هيّأ الله لهذا المراهق استقراراً نفسياً فسيكون قادراً على التفكير الموضوعي والتخطيط للمستقبل، والتّعاطف مع الآخرين والشّعور بمشاعرهم.

المراهقة المتأخّرة
وتأتي هذه المرحلة في بداية السنة الثامنة عشرة تقريباً من عمر الشاب وتمتدّ نحو ثلاث سنوات إذا كان يعتمد على نفسه، كما كانت الحال في بلادنا في الأجيال السابقة، وكما هي الحال في بلاد الغرب. وأمّا إذا كان الشاب يعتمد على أهله بشكل كامل في الإنفاق فإنّ شعوره بالمسؤولية يتأخّر، وبذلك تمتدّ فترة مراهقته المتأخّرة إلى آخر الدراسة الجامعية، بل قد تمتدّ إلى ما وراء ذلك.
وهذه المرحلة تمثّل استقراراً نفسياً للشاب أكثر من المرحلة السابقة، كما تمثّل تواصلاً مع أهله أكثر من ذي قبل، فهذه المرحلة تجعله أكثر تعقّلاً، وأقلّ جنوحاً في الرأي والسلوك، وأقدر على رسم معالم مستقبله، والتكيّف مع ظروفه وبيئته، فيُقَدِّر غالباً أهميّة الجدّ في دراسته، ويُفكّر أكثر بمرحلة الاستقرار والبحث عن عمل، والزواج، ويستشير أهله في أموره المهمّة..
وغنيّ عن البيان أنّ هذه المراحل الثلاث متواصلة متداخلة، كما أنها موصولة بمرحلة الطفولة التي سبقتها، وبمرحلة الرّجولة التي تتبعها. لكنّ ما تختصّ به مراحل المراهقة هو سرعة التغيّرات التي يمرّ بها الفرد، بحيث تغدو هذه المراحل ميداناً لإعادة ترتيب عناصر الشخصية، وإن شعور المراهق بهذه التغيرات وبسرعتها وبحجمها يدفعه للتفكير لتكوين صورته عند نفسه، وصورته عند الآخرين، أي يُريد أن يعرف: ما هو؟ وما إمكاناته؟... وكيف ينظر الناس إليه؟. ويُريد أن يكوّن لنفسه هوية متميّزة، وقد يتمكّن من صياغة هذه الهويّة بشكل تتّسق فيه نوازع نفسه وعناصر شخصيته، وقد يضطرب في ذلك، ويدخل في "أزمة هوية" وهذه الأزمة قد تمتدّ إلى مراحل لاحقة إذا فاتته الحكمة وفقد الرعاية الحكيمة والصحبة الصالحة.
وبقدر ما يعرف المراهق نفسُه، ويعرف أهلُه وذووه، خصائص هذه المرحلة يكونون جميعاً أقدر على التصرّف الحكيم بحيث يتمّ عبور المنعطفات بكياسة وسلامة وإنجاز ونموّ، فتكون هذه الفترة العمرية فترة إنجاز وبناء وتجاوز للتحديات، وربّما قدّم الشاب من العطاءات ما يعجز عنه الرجال المتمرّسون. ونظرة إلى أصحاب رسول الله ومن تَبِعَهم بإحسان على طريق الجهاد والعلم، تُرينا كيف حَفَلَ التاريخ بقادة فتوحات، وأهل فقه وفتوى... وهم في بعض مراحل المراهقة... والسّعيد من وفّقه الله ليكون شابّاً ناشئاً في طاعة الله، متطلِّعاً إلى الكمالات، مترفِّعاً عن السفاسف. والله يقول الحقّ وهو يهدي السّبيل.