هناك أربعة أنواع من الطرق تؤثر في العقل الباطن تأثيرا عشوائيا وأحدها هو البيئة: وتشمل البيئة الطبيعية والبيئة الاجتماعية. فالبيئة الطبيعية كحرارة الجو، وبرودته، ورطوبته، وطبيعة الأرض صحراوية كانت، أم جبلية، أم زراعية، أم ساحلية؛ والكائنات الحية التي تحيط به، من نبات وحيوان؛ كلها تؤثر في عقله الباطن. فالعربي في الصحراء يعرف نحو خمسين اسماً للإبل، ورجل الإسكيمو يعرف نحو سبعين اسماً للثلج والجليد، ولكل ذلك معان ودلالات تؤثر في تفكير الإنسان وسلوكه دون أن يشعر. أما البيئة الاجتماعية فهي أشد تأثيراً وأعظم شأناً في صياغة العقل الباطن، ابتداء من أبويه وأسرته، وانتهاء بوسائل الإعلام التي تنحت في عقله الباطن، مروراً بمعلميه، وأصدقائه، وأقاربه، وبقية أفراد المجتمع، وما يفرزه هذا المجتمع من ثقافة وأدب ولغة، وسلوك كل ذلك يؤثر في العقل الباطن كما يؤثر الماء الجاري في الصخور فينحتها نحتا، ويحيلها إلى أشكال ذات أبعاد وزوايا معينة.

لذا نجد إبداع الشخص وإنتاجه معبرا عن بيئته شاء أم أبى. يصف المتنبي بحيرة طبرية فيقول:
لـــولاك لم أترك البحيرة....................والغور دافئ وماؤها شبم
والموج مثل الفحول مزبدة................تهدر فيها وما بها نظم
والطير فوق الحباب تحسبها.............فرسان بلق تخونها اللجم
كأنها والرياح تضربها........................جيش وغى: هازم ومنهزم
كأنها في نهارها............................ قمرحف به من جنابها ظلم

فلا يستطيع المتنبي، وهو يصف البحيرة هذا الوصف الجميل، أن يتخلص مما هو مخزون في عقله الباطن من بيئته التي نشأ فيها، وهي بيئة الحرب والكر والفر والقتال. فيشبه الموج في اندفاعه وهديره بفحول الإبل تثور بها رغباتها، كما يتخيل طير الماء وقد اعتلى الزبد الأبيض فرسانا يمتطون صهوات أفراس بيض، ثم يتخيل الرياح التي تهب فوق سطح البحيرة وما تثيره من أمواج متلاطمة، وكأن جيشين يقتتلان فيشتبكان ثم تنجلي المعركة عن فريق منتصر ثابت في مكانه، وآخر منهزم يمعن في الانسحاب.

ولننظر إلى صورة أخرى حيث يصف الشاعر الأندلسي ابن خفاجه نهرا فيقول:

لله نهر سال في بطحاء....................أشهى ورودا من لمى الحسناء
متعطف مثل السوار كأنه..................والزهر يكنفه مجر سماء
وغدت تحف به الغصون كأنها..............هدب يحف بمقلة زرقاء

إذ تعكس أبيات ابن خفاجه طبيعة الحياة الناعمة، وما في بيئته من قصور، وجمال، ونساء، وحدائق.

ولا يقتصر التأثير على الخيال والأحاسيس والإبداع الفني، وإنما يشمل السلوك بكافة جوانبه. ومعروفة قصة عمرو بن كلثوم مع ملك الحيرة عمرو بن هند عندما أهانت هند والدة الملك أم عمرو بن كلثوم، فما كان من الشاعر التغلبي إلا أن قتل الملك منشدا معلقته الشهيرة التي يقول فيها:

أبا هند فلا تعجل...................عليناوأنظرن� � نخبرك اليقينا
بأنا نورد الرايات بيضا..............ونصدرهن حمرا قد روين
تهددنا وتوعدنا رويدا...............متى كنا لأمك مقتوينا










المرجع: آفاق بلا حدود
اسم الكاتب: محمد التكريتي
دار النشر: الملتقى للنشر والتوزيع
سنة النشر: 2003
رقم الطبعة: الخامسة
رقم الصفحة: 218-220
كلمات مفتاحية: العقل الباطن – بيئة - تفكير - سلوك – إبداع - خيال - تأثير .
أرسل بواسطة:
رابط القصة: http://trainers.illaftrain.co.uk/ara...l.thtml?id=205