وللإيمان والاعتقاد مستويات في العقل الباطن أعمقها أرسخها هو المستوى الروحي. ففي هذا المستوى توجد المعتقدات الروحية، وفيه يستقر الإيمان بالغيب. ويوجه هذا المستوى حياتنا ويشكلها. وقد يكون ذلك بوعي منا أو بدون وعي. ويلي ذلك المستوى الانتماء أو الهوية، ويليه مستوى الإيمان والاعتقاد بالأشياء من حولنا كالبلاسيبو، والإيمان والاعتقاد بإمكاناتنا وهو ما اصطلحنا عليه بالإيمان الحياتي. ويمكن تصنيف هذا الإيمان أو الاعتقاد الحياتي إلى أنواع ثلاثة:
  • الإيمان بالممكن والمستحيل.
  • الإيمان بالقدرة والعجز.
  • الإيمان بالسبب والمسبب.
إن هذه المعتقدات تضع حدودا لإدراكنا للعالم، وبالتالي فهي تؤثر في سلوكنا. أي أن سلوكنا ينسجم دائما مع ما نؤمن به أو نعتقده. وإذا تغير إيماننا واعتقادنا فإن سلوكنا سيتغير تبعاً لذلك( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (الرعد:11).

وإذا تغير أي مستوى من هذا المستويات (الشكل السابق) فإنه يؤثر فيما فوقه لا يؤثر فيما تحته. ومن هنا نعلم الأهمية البالغة للمستويات العميقة. والمستوى الأعمق لإيماننا واعتقادنا هو المستوى الروحي. وأي تغيير في هذا المستوى يؤثر تأثيرا شاملا في حياة الإنسان. ولعل خير مثال لدينا هو التغيير الذي أحدثه الدين الإسلامي في حياة العرب، ثم حياة الأمم الأخرى التي استجابت لهذا الدين وآمنت به. وفيما يلي تلخيص للانقلاب الذي أحدثته رسالة النبي العربي صلى الله عليه وسلم، لنرى كيف أن المستويات جميعها قد تغيرت. فهوية الإنسان العربي وانتماؤه قد تغيرا. ومعتقداته وقيمة ومعاييره كلها قد تغيرت، وقابلياته وسلوكه قد تغيرا كذلك، فأصبح إنسانا جديدا في كل شيء. مثال: (من كتاب "ماذا خسر العالم" لأبي الحسن الندوي، بتصرف).

امتاز العرب من بين أمم العالم وشعوبه في العصر الجاهلي بأخلاق ومواهب تفردوا بها كالفصاحة، وقوة البيان، وحب الحرية، والأنفة، والفروسية، والشجاعة، والحماسة في سبيل العقيدة، والصراحة في القول، وجودة الحفظ، وحب المساواة، وقوة الإرادة، والوفاء، والأمانة.

ولكنهم كانوا مشركين. فإلى جانب اعتقادهم بالله كانوا يعتقدون بوسطاء يعيدونهم ليقربوهم إلى الله زلفى. واختلطت الأمور لديهم، فانغمسوا في الوثنية وعبادة الأصنام. فكان لكل قبيلة، أو ناحية، أو مدينة صنم خاص. ومن لم يقدر منهم على بناء صنم نصب حجرا ثم طاف حوله كطوافة بالبيت وسموها الأنصاب. فكانوا يعبدون الحجر، فإذا وجدوا حجرا هو خير منه ألقوه وأخذوا الآخر. وكان للعرب آلهة شتى من الملائكة والجن والكواكب. فكانت بنو مليح من خزاعة يعبدون الجن، وكانت حمير تعبد الشمس، وكنانة القمر، وتميم الدبران، ولخم وجذام المشتري، وطئ سهيلا، وقيس الشعرى، وأسد عطاردا.

وقد أفرزت تلك المعتقدات أنواعا من السلوك. فكان شرب الخمر واسع الشيوع شديد الرسوخ فيهم، وكان القمار من مفاخر الحياة الجاهلية، وما كان عدم المشاركة في مجلس القمار عارا، وكانوا يتعاطون الربا. ولم يكن الزنى نادرا، وكان من العادات أن يتخذ الرجل الخليلات، وكانوا يكرهون إماءهم على الزنى، وكانت المرأة في المجتمع الجاهلي عرضة غبن وحيف، تؤكل حقوقها وتبتز أموالها، وتحرم إرثها، وتعضل بعد الطلاق، أو وفاة الزوج من أن تنكح زوجا ترضاه، وتورث كما يورث المتاع أو الدابة.

وكانوا يكرهون البنات. وبلغت كراهيتهم للبنات إلى حد الوأد. وكانت العصبية القبلية والدموية شديدة جامحة، وكان في المجتمع العربي طبقات وبيوت ترى لنفسها فضلا على غيرها، وامتيازا. وكان النفوذ والمناصب العليا متوارثا، يتوارثه الأبناء عن الآباء، وكانت طبقات مسخرة وطبقات سوقة وعوام. وكانت الحرب والغزو من طبيعة العرب وسجاياهم حتى صارت الحرب مسلاة لهم وملهاة.

وأحيانا على بكر أخينا...................... إذا لم نجد إلا أخانا

فكانت الحرب بين بكر وتغلب ابني وائل التي استمرت أربعين سنة لسبب تافه، ثكلت فيها الأمهات ويتم فيها الأولاد. وكذلك داحس والغبراء فما كان سببها إلا أن داحسا فرس قيس بن زهير كان سابقا في رهان بين قيس بن زهير وحذيفة بن بدر فعارضه أسدي بإيعاز من حذيفة فلطم وجهه وشغله، ففاتته الخيل، وتلا ذلك قتل ثم أخذ بالثأر ونصر القبائل لأبنائها، وأسر ونزح للقبائل، وقتل في ذلك الوقت من الناس.

وحملت العيشة البدوية وقلة أسباب الحياة، والطمع والجشع، والأحقاد، والاستهانة بحياة الإنسان على الفتك والسلب والنهب، حتى كانت أرض الجزيرة ليس فيها أمن وأمان، ولا يدري الإنسان متى يغتال وأين ينهب. وبالجملة لم تكن على ظهر الأرض أمة صالحة المزاج، ولا مجتمع قائم على أساس الأخلاق والفضيلة ولا حكومة مؤسسة على أساس العدل والرحمة، ولا قيادة مبنية على العلم والحكمة، ولا دين صحيح مأثور عن الأنبياء.

حتى بعث محمد صلى الله عليه وسلم، فدعا الناس إلى الإيمان بالله وحده, ورفض الأوثان، والكفر بالطاغوت بكل معاني الكلمة، ودعاهم إلى الإيمان برسالته، والإيمان بالآخرة، فقامت قيامه الجاهلية ودافعت عن تراثها دفاعها الأخير، وقاتلت في سبيل الاحتفاظ به قتال المستميت. وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ثبوت الراسيات، لا يشبه أذى، ولا يلويه كيد، ولا يلتفت إلى أغراء، يقول لعمه:" يا عم لو وضعت الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك في طلبه".

فكان من نتيجة ذلك أن حدث أغرب انقلاب في تاريخ البشر. وكان هذا الانقلاب في نفوس المسلمين غريبا في كل شيء: كان غريبا في سرعته، وكان غريبا في عمقه، وكان غريبا في سعته وشموله، فإذا آمن أحد بالله وشهد أن لا إله إلا الله انقلبت حياته ظهراً لبطن، تغلغل الإيمان في أحشائه وتسرب إلى جميع عروقه ومشاعره، وجرى منه مجرى الروح والدم. وكان هذا الإيمان أقوى وازع عرفه تاريخ الأخلاق وعلم النفس عن الزلات الخلقية والسقطات البشرية، حتى إذا جمحت السورة البهيمية في حين من الأحيان وسقط الإنسان سقطه، وكان ذلك حيث لا تراقبه عين ولا تتناوله يد القانون تحول هذا الإيمان نفسا لوامة عنيفة ووخزا لاذعا للضمير وخيالا مروعاً، لا يرتاح معه صاحبه حتى يعترف بذنبه أمام القانون، ويعرض نفسه للعقوبة الشديدة ويتحملها مطمئنا مرتاحاً تفادياً من سخط الله وعقوبة الآخرة.

وكان هذا الإيمان حارسا لأمانة الإنسان وعفافه وكرامته، يملك نفسه أمام المطامع والشهوات الجارفة وفي الخلوة والوحدة حيث لا يراها أحد. ورفع هذا الإيمان رأسهم عاليا وأقام صفحة عنقهم فلن تحنى لغير الله أبدا. لا لملك جبار ولا لحبر من الأحبار ولا لرئيس ديني ولا دنيوي. وملأ قلوبهم وعيونهم بكبرياء الله تعالى وعظمته، فهانت وجوه الخلق وزخارف الدنيا ومظاهر العظمة والفخفخة. وقد بعث الإيمان بالآخرة في قلوب المسلمين شجاعة خارقة للعادة وحنينا غريباً إلى الجنة واستهانة نادرة بالحياة. واقتلع صلى الله وعليه وسلم جذور الجاهلية وجراثيمها، وحسم مادتها، وسد كل نافذة من نوافذها، وحرم حمية الجاهلية وقيد ذلك التناصر الذي جرت الجاهلية العربية على إطلاقه. وأصبحت الطبقات والأجناس في المجتمع الإسلامي متعاونة متعاضدة لا يبغي بعضها على بعض.

وهكذا تحولت هذه المواد الخام المبعثرة التي استهانت بقيمتها الأمم المجاورة وسخرت منها البلاد المجاورة، إلى كتلة بشرية لم يشهد التاريخ البشري أحسن منها اتزانا، ولا أكثر منها عدلا. وكان هذا الانقلاب العظيم يحدث على أثر قبول الإسلام من غير تأن ولا تأخير. كل ذلك لأن التغيير كان في أعمق أعماق الإنسان فكان يغير كل شيء في حياته.









المرجع: آفاق بلا حدود
اسم الكاتب: محمد التكريتي
دار النشر: الملتقى للنشر والتوزيع
سنة النشر: 2003
رقم الطبعة: الخامسة
رقم الصفحة: 148-153
كلمات مفتاحية: معتقدات – قيم – سلوك – عادات – واعي لاواعي – إدراك – تصور – تغيير المعتقدات – العقل الباطن - تأثير.
أرسل بواسطة: رامي حوالي
رابط القصة: http://trainers.illaftrain.co.uk/ara...l.thtml?id=204