شكل ظاهرة تقمص الأطفال لشخصيات المسلسلات هاجساً لدى المربين وربات الأسر. بل تهديدا لكيان المجتمع، فقد أصبحت تصنع شخصيات أطفال مخالفة لطبيعة المجتمع وسلوكيات يرفضها العرف والدين، وأكد أكاديمي في التربية وعلم النفس أن محتوى ما يشاهده أو يسمعه أو يتلمسه الطفل يشكل شخصيته فيما بعد، فينظر إلى كل كلمة أو فعل يصدر على أنه قيمة يجب أن يقتدى بها، وهذا يعكس خطورة عدم وجود رقابة على ما يشاهده الطفل.
وترى نورة العيسى (ربة أسرة) أن هذه الظاهرة أصبحت مشكلة عصرية تنبيء عن خلل في بنية الشخصية ونشأة الأطفال، وتؤكد غياب الأسر عن مراقبة الأطفال أثناء متابعاتهم لما يعرض عبر وسائل الإعلام المرئية، تقول "لكون التقليد سمه، وخاصية من خصائص هذه المرحلة العمرية، والتي تفتقد إلى نظرة التحكيم الثاقبة لكل ما يدور من حولها من سلوكيات. علينا أن نقدم للأطفال شخصيات قيادية تحمل سمات إيجابية بدءا من أفراد الأسرة، خاصة أن أطفالنا باتوا يتقمصون شخصيات تلفزيونية من خلال الملبس وقصات الشعر والمظهر الخارجي الذي قد يخالف عاداتنا الاجتماعية. إلى جانب تقليد تلك الشخصيات في التعبيرات اللفظية والحركية، بعد اقتناع الأطفال وإعجابهم بتلك الشخصيات" .
قنوات تحمي الأطفال
ويؤكد يعقوب خميس (متقاعد)ضرورة وجود قنوات تحمي الأطفال، وتحقق لهم رغباتهم، وتشبع فضولهم، مع الحفاظ على ثقافة المجتمع، وتغرس السلوكيات الايجابية، وتعزز مظاهر التسامح والألفة بين الأطفال، بحيث تضمن في قوالب من المرح والفكاهة والتشويق، التي يحتاجها الكثير من أطفالنا للخروج من التعقيدات العصرية، وتوظيف طب الأطفال والأخصائيين النفسين في إعداد هذه البرامج.
ويرى أن المجتمع مازال يفتقد ثقافة محاكمة الجهات الإعلامية التي تخترق أطر المجتمع، مقترحا إنشاء جمعية تعنى بالأطفال وتدافع عن حقوقهم وتقاضي المؤسسات الإعلامية التي تسهم في زعزعة بنائهم .
وتقول المعلمة بتعليم الطائف عبير الزهراني "الأطفال عادة ما يميلون إلى تقليد الشخصيات القوية في المسلسلات والأفلام الكرتونية، التي قد تولد العدوان السلوكي، حيث تعزز هذه السلوكيات مع مرور الزمن، وبالتالي هذه الظاهرة ستشكل عقبة في تركيبة المجتمع، كما أن بعض الأطفال يقومون بتلقيب البعض من أقارنهم بأسماء المسلسلات، التي قد تكون ذميمة فتولد الاحباطات والانكسارات للأطفال والخذلان".
وترى الجدة أم فهد أن تقليد الأطفال للشخوص عرف منذ القدم، وكان عادة من دفعهم إلى ذلك السلوك هم الآباء لتقليد شخصيات اجتماعية بارعة سواء من خلال التحفيز اللفظي، واستماع الحكايات القديمة من كبار السن، ولكن كان ذلك مرغوبا لكونه موافقا لطبيعة المجتمع وعاداته، إلا أن صفة التقليد للأطفال في الحاضر تدفعهم إلى التشبه بالآخرين، وتطالب الأسر بأن توعي أبنائها بحسن الاقتداء وليس الغيبة.
ويشير الطفل بمدرسة المقداد بن عمرو الابتدائية سعود ناصر إلى أن التقليد يحقق المتعة لهم، حيث يجتهدون في تقمص شخصيات معينة، وكلما أصبحوا قادرين على إتقانها كلما كان إعجابهم بأنفسهم أكثر ، كما أن ذلك يؤدي إلى إثراء الحماس في التنافس أثناء ممارسة الألعاب كلعبة البلاستيشن وكرة القدم، حيث كل شخص يتقلد اسماً "ما" يكون مميزا في تأدية هذه اللعبة، ومن ذلك يتحقق الإبداع والمتعة للجميع.
كائنات تسير النشء
من جهته ذكر أستاذ التربية وعلم النفس بجامعة الطائف الدكتور محمد كرم الله أن محتوى ما يشاهده أو يسمعه أو يتلمسه الطفل داخل تلك الأسرة يشكل شخصيته فيما بعد، فينظر إلى كل كلمة أو فعل يصدر على أنه قيمة يجب أن يقتدي بها، وهذا يعكس مدى الأهمية والخطورة لما يدور داخل البيت، خاصة أننا نعيش واقعا لا يمثل الأب والأم أو بقية أفراد البيت، وإنما ثمة كائنات أصبحت تسير النشء هي الأخرى، وربما أخذت زمام المبادرة في أحيان كثيرة لكل المعطيات التربوية.
وأضاف "التلفاز يأتي على رأس هذه الكائنات، حيث متوسط جلوس الطفل في الولايات المتحدة الأمريكية أمام التلفزيون هو تقريبا أربع ساعات في اليوم، وفي العالم العربي لا نملك إحصائيات دقيقة. إلا أننا نستطيع أن نؤكد أن المتوسط أكبر من ذلك فكم هي مشاهد العنف التي يشاهدها والكلمات النابية التي يسمعها، وكم هي الصور التي لا تعبر عن محتوى ثقافتنا. بل ربما تعكس محتوى مضاداً لما يجتهد الوالدان أن يعلماه للطفل من عنف وخلاعة".
وأوضح الدكتور كرم الله أن الطفل عندما يشاهد ذلك يثبت في مخيلته أن هذا هو نمط السلوك السليم، لأن الطفل يفتقد الحكم القيمي والتقييم الموضوعي، فيبدأ في تقليده والتشبه به، والأمر في غالب الأحيان لا يقف عند حد التشبه، وإنما يتخطاه لسلوكيات من التقمص التي يأتي تقليدها فيما بعد على نحو لا واع ، وتتدرج ضمن محتويات عقلة الباطن، وهذا أخطر ما في الأمر. إذ إن المشهد قد يشكل لديه فيما بعد سلوكا راسخا ثابتا يشكل جزءا كبيرا من شخصيته في الحياة.
وأكد الدكتور كرم الله أهمية وجود رقابة محكمة من قبل الوالدين للأطفال سواء في عدد الساعات التي يجلسها أمام التلفزيون، أو في محتوى ما يشاهده، خاصة أن جلوس الطفل أمام التلفزيون لساعات طويلة له انعكاسات صحية سيئة على المدى الطويل، فمشاكل البصر وأوجاع الظهر هي ظواهر غير صحية مباشرة، كما أن مظاهر السمنة الزائدة عند الأطفال تحدث بسبب الجلوس الطويل أمام التلفزيون، كما أنه يتسبب في غلبة الخيال الفاسد على الطفل.
وأشار إلى أن المشاهد الخيالية أو مشاهد العنف التي تشاهد تشكل فيما بعد جزءاً من مخيلة الطفل الداخلية، فتجبره على أن يكون له عالمة الخاص الذي يعيش فيه، وربما يكون ذلك العالم مقطوعا تماما عن العالم الواقعي الذي يعيش فيه، بما يشكل بترا للعلاقة النفسية والروحية السليمة التي يجب أن تنشأ بينة وبين محيطه، حيث يلاحظ فقدان الهوية الداخلية، وانقطاع الصلة النفسية بين الكثير من الأطفال ومجتمعهم في العصر الحاضر . كما أن التشبه واتخاذ أنماط سلوكية كالعنيفة ليكون نموذجا ذهنيا يفكر فيه الطفل، حتما سيشكل جزءاً من المخاطر التي يجب على الأسرة أن تراعيها وتحول بينها وبين وقوع آثارها السالبة على الطفل.
وأشار إلى أن حل هذه الظاهرة يرتكز على تنظيم ساعات جلوس الأطفال أمام التلفاز، وكيفية الجلوس، ومن ثم اختيار أفضل البرامج التربوية الهادفة التي يمكن أن تشكل وجدانه وذهنه بما يعود علية بالنفع فيما بعد.