سنو عجوز افريقي , محدودب الظهر كقوس محارب من قبائل الماساي , أبيض شعر الرأس , حتى ليخال للناظر إليه أن غمامة بيضاء تظلله لطهره !!
يعمل بواباً لمعهد البيان ذاك المشعل في الظلام الأسود كقلب الكافر …كان اذا أبصرنا شبك بين يديه ورفعها عاليا هاتفا : سنو , سنو , أي تحية , تحية..

صعقت لرحيله وبالنهاية الدرامية التي انتهى بها عمره ..فكانت هذه الأسطر المنثالة المصحوبة بدموعي وأنيني …!!

اليوم أنا حزين ..حزن معتق ..
هل ذقت تلك المرارة يوما ما ؟؟ أنا أتجرعها منذ أيام ..
حزين مفردات أتذوق كل حرف منها ..
حاء : حرارة كالتنور تظطرم بروحي لفقده..!!
زين : زئبق هي الدنيا، نفرح فتكشر عن آنيابها ،فنبكي.!
ياء : يرعى , مازال حبه يرعى بقلبي ,,أعدك لن أنساك..
نون : نار هو الحزن المعتق ..

حزين أنا !!


كان إذا رآني اخذ كفي بين كفيه الخشنة السمراء , يرفعها يهزها , يضعها على قلبه ..إشارة للحب ، هكذا يعبر الأفارقة عن حبهم ..!

قال لي ذات يوم عبر المترجم : أحبك يا ولدي
رددت : لماذا؟
لأنك رايت الكعبة ،لأنك حججت بيت الله..!!


كان المكان مزدحما , والكون قد التحف عباءته السوداء , وهناك في العلا لي نجوم تومض بحياء وتوشوش لأخواتها ..انظري ما يحدث في مشعل الخير ذاك..!!

كان فلماً وثائقياً عن مكة و المدينة شرفهما الله ..مع كل لقطة يرتفع صوت نحيب ..ومع كل صورة تسمع صوت نشيج ..والفلم يعمل يحلق بالأرواح إلى مكة والمدينة ..والدموع تنهمر حتى خلتها ستغرقنا..!! كنت أحمقاً بالفعل إذ جلبت معي فلماً وثائقياً في رحلتي تلك !

سنو من شدة الزحام يشاهد العرض من نافذة الغرفة ودموعه تهراق كفيضان النيل الأزرق ..انتهى العرض بيد أن الملحمة البكائية لم تنتهي بعد ..

خرجت من الغرفة .. أبصرته ,دموعه, نشيجه , وكالعادة اخذ كفي بين كفيه هزها ووضعها على قلبه ..نظرت في عينيه ..فأبصرت الحب فصدقت المثل القائل : للعيون لغة…..وبكيت ..ليتني ارتميت على كتفه لأهدأ ..

قابلته ذات يوم تحت شجرة البابايا في مدخل المعهد ..فسألته : ماذا تتمنى يا عم ..
فهتف : مكة …مكة ..مكة..!!

علمني الخشوع وأنا من أتشدق بكلمات جوفاء كثيرة عن ذلك ..علمني معنى الإيمان وهو لا يتقن العربية ولم يقرأ المدارج مثلي ولا الظلال لسيد .. و لا كتب ابن رجب الحنبلي أو ابن تيمية ؟

علمني الثبات وهو لم يلق محاضرة مثل ماهذرت وطنطنت…

ترى لو كنت مكاني أتبكيه ..؟؟

حزينٌ أنا ..وحزني يهاجمني ..كما لم يفعل قبلا ..!

دموعي تتساقط كأمطار (جوس) الاستوائية ،مدينة سنو الجميلة ..

سنو ..يا قطعة البخور البشرية !!
البخور لايضوع عطره إلاَّ حين يحترق ..وكنت أنت كذلك!!

عدا على المعهد الإسلامي الطاهر كسحابة زُمر من الحاقدين , في ليلة سوداء كقلوبهم , أتوا وقد تبرأت منهم الإنسانية والفطرة فغدوا شياطين حمراء كاللهب ..أتوا حاصروا معهد البيان وأضرموا فيه النيران ..لحظتها تراقصت الشياطين حول نيرانهم ضاحكة منتشية بما فعلوا…

أحرقوا أشجار المانجو الظليلة المثمرة..وشجرة البابايا التي تبتسم في مدخل المعهد..أحرقوا الفصول الدراسية , المكتبة , المسجد , المصاحف…

أحرقوا كل شيء..

وأهم شيء لم ينسوا أن يحرقوا سنو..

رأوه يصارع النيران ولم يرحموه..
أبصروه يتحول لرماد ولم ينقذوه..

لم يتذكروا مطلقاً عبارة المسيح – عليه السلام – ( بالحب جئتُ وأحبوا أعداءكم ..)

احترق سنو كقطعة بخور معتقة ..
رفرفت روحه الزاكية كرائحة البخور الطيبة ..

مات سنو
مات …
ولم يحظَ برؤية مكة إلاَّ من خلال ذاك الفلم الذي أجرى دموعه كشلالات فيكتوريا الأفريقية ..

مات سنو…
شهيد بإذن الله أنت ياسنو..

رباه مقصر مثلي يدعوك
أن تقبل ذلك العجوز عندك شهيدا ..

أيارب استجب….أيارب استجب..

امين


المصدر:http://www.abohassan.net/?p=71