وقف "جان" في المحطة مزهوّا ببدلته العسكرية الأنيقة، وراح يراقب وجوه الناس وهمينحدرون من القطار واحدا بعد الآخر.
كان في الحقيقة يبحث عن وجه المرأة التييعرفها قلبه، لكنه لم ير وجهها قط.
قالت له بأنها ستعلق على صدرها وردة حمراءليتمكن من أن يميزها من بين مئات المسافرين
لقد بدأت معرفته بها منذ حواليثلاثة عشر شهرا، كان ذلك في المكتبة العامة في فلوريدا عندما اختار كتابا وراح يقلبصفحاته.
لم يشده ما جاء في الكتاب بقدر ما شدته الملاحظات التي كتبت بقلم الرصاصعلى هامش كل صفحة.
أدرك من خلال قراءتها بأن كاتبها إنسان مرهفالحس دمث الأخلاق، وشعر بالغبطة عندما قرأ اسمها مكتوبا على الغلاف باعتبارهاالسيدة التي تبرعت للمكتبة بالكتاب.
ذهب إلى البيت وراح يبحث عن اسمها حتى عثرعليه في كتاب الهواتف، كتب لها ومنذ ذلك الحين بدأت بينهما علاقة دافئة وتوطدت عبرالرسائل الكثيرة التي تبادلوها.
خلال تلك المدة، اُستدعي للخدمة وغادرأمريكا متوجها إلى إحدى القواعد العسكرية التي كانت تشارك في الحرب العالميةالثانية.
بعد غياب دام عاما، عاد إلى فلوريدا واستأنف علاقته بتلك السيدة التيأكتشف فيما بعد أنها في مقتبل العمر وتوقع أن تكون في غاية الجمال.
اتفقا على موعد لتزوره، وبناء على ذلك الموعد راح في الوقت المحدد إلىمحطة القطار المجاورة لمكان إقامته.
شعر بأن الثواني التي مرت كانت أياما، وراحيمعن في كل وجه على حدة.
لمحها قادمة باتجاهه بقامتها النحيلة وشعرهاالأشقر الجميل، وقال في نفسه: هي كما كنت أتخيلها، يا إلهي ما أجملها!
شعر بقشعريرة باردة تسللت عبر مفاصله، لكنه استجمع قواه واقترب بضعخطوات باتجاها مبتسما وملوحا بيده.
كاد يُغمى عليه عندما مرّت من جانبهوتجاوزته، ولاحظ خلفها سيدة في الخمسين من عمرها، امتد الشيب ليغطي معظم رأسها وقدوضعت وردة حمراء على صدرها، تماما كما وعدته حبيبته أن تفعل.
شعر بخيبة أمل كبيرة: "ياإلهي لقد أخطأت الظن! توقعت بأن تكون الفتاةالشابة الجميلة التي تجاوزتني هي الحبيبة التي انتظرتها أكثر من عام، لأفاجأ بامرأةبعمر أمي وقد كذبت عليّ"
أخفى مشاعره وقرر في ثوان أن يكون لطيفا،لأنها ولمدة أكثر من عام ـ وبينما كانت رحى الحرب دائرة ـ بعثت الأمل في قلبه علىأن يبقى حيا.
استجمع قواه، حياها بأدب ومدّ يده مصافحا: أهلا، أنا الضابط جان وأتوقع بأنك السيدة مينال!
قال يحدث نفسه: "إن لم يكن منأجل الحب، لتكن صداقة"!، ثم أشار إلى المطعم الذي يقع على إحدى زوايا المحطة: "تفضلي لكي نتناول طعام الغداء معا"
فردت: يابني، أنا لست السيدة مينال، ولاأعرف شيئا عما بينكما. ثم تابعت تقول:
قبيل أن يصل القطار إلى المحطة اقتربت منيتلك الشابة الجميلة التي كانت ترتدي معطفا أخضر ومرت بقربك منذ لحظات، وأعطتني وردةحمراء وقالت: سيقابلك شخص في المحطة وسيظن بأنك أنا.
إن كانلطيفا معك ودعاك إلى الغداء قولي له بأنني أنتظره في ذلك المطعم، وإن لم يدعوكاتركيه وشأنه، لقد قالت لي بأنها تحاول أن تختبر إنسانيتك ومدى لطفك.
شكرها وركض باتجاه المطعم!
...............
اللحظات الحرجة فيحياتنا هي التي تكشف معدننا وطيبة أخلاقنا. الطريقة التي نتعامل بها مع الحدث، وليسالحدث بحدّ ذاته، هي التي تحدد هويتنا الإنسانية ومدى إلتزامنا بالعرف الأخلاقي.

ظن ذلك الشاب في أعماقهبأن تلك المرأة التي تبدو بعمر والدته قد غشته، ولم تكن الفتاة التي بنى أحلامه علىلقائها، ومع ذلك لم يخرج عن أدبه، بل ظل محتفظا برباطة جأشه. تذكر كلماتها التيشجعته على أن يبقى حيا ومتفائلا خلال الحرب، وحاول في لحظة أن يتناسى غشها، فكانلطيفا ودعاها إلى تناول الغداء.
هناك مثل صيني يقول:
إذا استطعت أنتسيطر على غضبك لحظة واحدة ستوفر على نفسك مائة يوم منالندم.
تصوروا لو سمح هذا الشاب لغضبه أن يسيطر عليه، كم يوما من الندم كانسيعيش؟!!