مشرف
المدربون المعتمدون
- معدل تقييم المستوى
- 35
وطأة الظّروف الماديّة تعوق المُثقّفين والمُبدعين العرب
كتبَت: زينب ع.م البحراني
بحُزنٍ واهتمامٍ كبير كُنتُ أتابع حكاية الفنّان "عبد العزيز مكيوي"، الذي قاده الفقر المتشبّث بعزّة النّفس والكبرياء إلى افتراش الرّصيف بعد تجاوزه السّبعين من عُمره، والاضطرار لترك زوجته المريضة بين أهلها كي تجد من يتكفّل برعايتها وعلاجها منهم لعجزه عن ذلك، رغم كونه – بشهادة من عرفوه من فنّانين وصحفيين - مُبدع مُثقّف، يتحدّث اللغة الإنجليزيّة والفرنسيّة والرّوسيّة بطلاقة، ويحمل شهادتين جامعيّتين؛ إحداهُما في ترجمة الأدب، والثّانية في السّياسة! والضّربة المُفاجئة؛ كان هو من أدّى دور شخصيّة "علي طه" في فلم "القاهرة 30" عن رائعة عبقري الرّواية العربيّة " نجيب محفوظ" قبل أكثر من ثلاثين سنة!! .. وقبلها كٌنتُ أتابع بكُلّ دهشتي لقاءًا تلفزيونيًا أجرته المُذيعة "منى الشّاذلي" مع الأديب الرّوائي المُبدع، والمُثقّف الأصيل "جمال الغيطاني" حين ذكر في معرض حديثه أنّه يُقيم في شقّة مُتواضعة في الطابق الخامس من بناية لا مصعد كهربائيّ فيها رُغم ظروفه الصحيّة التي لا تجعل من صعود تلك الطوابق كلّها في الذهاب والإياب أمرًا سهلاً، ولولا الصّدفة الأدبيّة التي انعطفت نحو حديثه عن مدى طيبة الأديب السوداني الرّاحل "الطيّب صالح" الذي كان يتصبّب عرقًا أثناء صعوده تلك الطّوابق الخمسة كي يعود الغيطاني أيّام مرضه لأبت عليه كرامته الإشارة لمثل ذاك الحديث، لئلا تُستشفّ منه صورةً عن ظروفه الماديّة .
حِكايات المُبدعين العرب
لم تكُن هذه أو تلك الحكاية الأولى من بين حكايات المُبدعين العرب في مُختلف مجالات الفنّ والأدب -والكلّ هُنا في همّ الإبداع سواء- إذ كان ومازال آلاف المُبدعين، من شُعراء وقصاصين وروائيين وممثلين وفنّانين تشكيليين في وطننا العربيّ من مُحيطه إلى خليجه يرزحون تحت وطأة ظروف ماديّة قاصِمَة لِظهرِ الإبداع غالبُا، وقاصِمَة للصحّة والحياة أحيانًا. فالمُثقّف المُبدع، الذي يجدُر بالدّولة والمُجتمع إلى جانب مؤسسات المُجتمع المَدنيّة تقدير قيمته ككنز من كنوز الأمّة القادرة على زيادة وعيها، ومن ثمّ رفع مُعدّل تنميتها البشريّة، يُعاني – في الغالب- مُعاناةً كبيرة في توفير أبسط احتياجاته المعيشيّة كالمَسْكَن والمَلبس والغِذاء والدّواء، فضلاً عن تنفّس الإبداع والثقافة كاقتناء الكُتب، أو حضور الفعاليات الثقافيّة سواءًا كانت مدفوعة الأجر، أو كان الوصُول إليها يتطلّب وسِيلة مواصلات مَدفوعة الأجْر. أو يُضطر للعَمَل في مهنة لا تُلائم ميوله ومواهبه، تأكل شطرًا هائلاً من كرامته وراحته وتفترس أعْصَابه، وتستولي على أكثر وقته المخصص للإبداع وتثقيف الذّات في مُعظم الأحوال، ليحفظ ماء وجهه. ورُغم إصرار بعض الأصوات على تكميم صوت تلك القضيّة الخطِرة على مُستقبل الثّقافة في وطننا العربي كلّه ومُكافحتها عمدًا بحُجّة أنّ المُبدع يجدُر به عدم التحدّث فيما يُسمّونه "ترفّعًا" عن سفاسف الأمور الماديّة، لا يسعنا إنكار حقيقة أنّ المُبدع مهما كان مُخلصًا لإبداعه، يبقى إنسانًا ومخلوقًا بشريًا من روحٍ ولحمٍ ودمٍ ومقدرة محدودة على التحمّل مهما طال أمدها، وكُلّما حاول بعض المُنتفعين دفن تلك القضيّة؛ كُلّما تفاقم عدد ضحاياها إمّا عن طريق الوفاة مرضًا وجوعًا وهمًا، أو عن طريق هجر الإبداع لصالح تدبير لقمة عيشٍ تُشبع أطفاله، أو قطرة دواءٍ تُقيم أود ما تبقّى من حياته. هُنا يصرُخ الواقع أن "لابُدّ من حل"، وفي مُحاولةٍ لسبر أغوار المشكلة ومن ثمّ إيجاد العلاج القادر على استئصالها، اقتربنا من بعض المُبدعين العرب لنسمع آراءهُم.
واقعٌ المُثقّف لا يَسُر ولا يُبشّر
"واقع المُثقف والثقافة لايسرّ ولا يبشرُ فى عالمِنا العَرَبى" بهذا استهلّ الكاتب المِصْري الدّكتور نادر عبد الخالق حديثه قبل أن يُكمل: " البُعد الإنساني الاجتماعي الذي يُغلّف هذا السؤال يقودنا لاكتشاف أمور أخرى كثيرة جدًا تكمُن خلفه، أعتقد أن إثارتها قد يزيد الأمر وضوحًا، بدايةً لا بدّ من إلقاء الضّوء على حالة البُعد الفِكْرى والثقافى والتنموى فى مُجتمعنا العربى، وبعدها يجدر بنا الحديث عن حال المثقف ومدى قدرته على التعبير فى ظل هذه الأجواء الموجّهة، وهُناك أسئلة كثيرة نحتاج الإجابة عليها جميعا فى صراحة وفى تخلى عن شىء من شرقيّتنا، منها وأهمها لماذا أنشئت الاتحادات الأهليّة، وكيف تدار، وكيف تسير فيها عملية الإنفاق؟، وما موقف المُثقف الحقيقى منها وما دَوْره؟، وما صِلة ذلك بالثقافة؟، وكيف تصان المواهب؟، وكيف يُعبّر المُبدِع فى حُريّة تجعله شخصًا مُستقلا لايُدارى ولايُحابي؟؟ وأسئلة أخرى تثيرها الوقائع والتجارب الثقافيّة. وهى أسئلة غالبا لا أجد لها إجابة عند المثقفين الذين تضج بهم السّاحات، وربّما كان لها إجابة عند غيرهم لكنهم لايُجيبون عنها ويكتفون بإشارات وإيماءات لاتعليل لها ولاتعليق عليها".
ويُكمل:" في واقع الأمر إن هذا الموضوع له وجوه كثيرة سياسية واقتصادية واجتماعية، منها ما يعود على المثقفين أنفسهم واختلاف المفهوم الثقافى لديهم، ومنها ما يعود على تردّي الواقع الثقافي في المُتخيّل العربى واقترانه دائما بالأشياء التى تضيع الوقت ولاتجدى فى ظل سيطرة رأس المال وفى ظل هيمنة المذاهب المادية الإلحاديّة على كثير من العقول العربية فى أوقات كثيرة، خاصّة فى مُنتصف ونهاية القرن الماضى مع وجود بيئات صالحة لانتشار ذلك منها الفقر والأميّة والجهل المعرفي الموروثي عند الأجيال الجديدة.إن العمل الثقافي يحتاج إلى جهود كبيرة تدعمه ويحتاج أن يتحوّل إلى واقع استثماري فى العقول والمواهب الإبداعيّة دون أن تستغل أو توجه ودون أن يرتبط هذا بثقافة أكل العيش أو تحقيق المكاسب أوالشهرة وما يترتب على ذلك من إسفاف أو تراجع عن المشروع الثقافي الإبداعي الفكري، كل هذه الأمور قد تجعل المواهِب تندثر أو تختفى تحت وطأة التهميش أو التجاهُل واللامُبالاة" .
وحين سؤاله عن الحل الأمثل للخروج من هذه الدائرة الضيقة التى انحصر فيها الإبداع والمُبدِعُ وانعكس أثرها على الثقافة كان ردّه: " الإجابة لن تقوم على الأفكار المثالية أو الأحْلام والأمنيات بقدر ما تحتاج إلى تضافر الجُهود المُجتمعية المدنيّة، الرّسمية والأهلية، ومُحاولة خلق جيل جديد لايعتمد على الثقافة كمصدر من مصادر الدخل، وإنما تكون الكلمة لديه رسالة والتعبير رؤية يتخطى به حاجز النفس الإنسانية المادية، وتصبح الاحتياجات الخاصة بمنأى عن دوافع الإبداع ولن يكون ذلك إلا بالنهوض بداية بالتعليم مقرونا بالمبادىء، لابالحشو والتكرار وبلوغ المناصب والمقاعد كأفق يسعى له الجميع، عندئذ سيكون للمثقف أهميته ودوره وستصبح كلمته ذات هدف ومغزى، ولن يوجه فكره أو يُدار بواسطة أخرين، وأعتقد أن ذلك سينعكس أثره اجتماعيًا وماديًا وأخلاقيًا على الحياة العامّة للمُثقف وعلى الثقافة وأهميتها في بناء المجتمعات وتطور المفاهيم العامّة والخاصّة. وفي النهاية فإن من المُهم الارتقاء بالمَواهِب وبمُسْتوى مَعيشة المَواهب، كما تفعل بعض الدّول في منح التفرغ بمعنى تفرغ المُبدِع للإبداع، وهذه لا ترشحها الدّولة فقط بل المؤسسات الأهلية الثقافية بحيث لا نصنع آلهة من جديد بتلك الأقلام، ولانصنع حزبًا ثقافيا فِكْريا يستولي على مقاليد الثقافة ويُصبح من ليس معه عدوّا يجب القضاء عليه" .
يتبع
كلما أدبني الدهر أراني نقص عقلي
وإذا ما ازددت علماً زادني علماً بجهلي
^______________^ ودمتم سالمين
المفضلات