أمّة تُعاني الجهل والأميّة

القاص والرّوائي المصري أحمد طوسون أكّد على حقيقة تفشّي تلك الظّاهرة بقوله:"في أمّة تعاني الجهل والأمية والتخلف والتعصّب للأفكار البالية وتغيب فيها حريات الرّأي والتعبير وينسحِقُ فيها الفرد وتغيب فيها الديمُقراطية، من الطبيعي أن تصبح فيها قدم لاعب الكرة أغلى قيمة من عقول أدبائها ومُثقفيها وعُلمائها. وأن يعيش أدباؤها ومثقفوها مهمومين بتوفير احتياجاتهم المادّية التي تكفل حدًا أدنى من الحياة.. ولعلنا نتابع كل فترة استغاثة هنا وأخرى هناك بحثا عن علاج أديب أو مثقف لم تكفل له كتاباته ما يجعله قادرًا على أبسط حقوقه كالحق في العلاج. أما الصّورة بالنسبة لشباب الكُتاب فتبدو أكثر قتامة.. فمقاهي وسط القاهرة تحتشد بعشرات الأدباء الشباب الذين بلا عمل أو دخل". وعند سؤاله عن تصوّره للحلول المُمكنة أجاب طوسون:"الحلول للمشكلة تبدو صعبة في ظل عدم وجود حماية حقيقية للمؤلفين في مواجهة دور النشر الخاصة للحصول على مقابل مناسب لطباعة كتبهم، وبخاصة للأسماء غير التجارية.. أيضا في ظل المقابل الزهيد الذي يحصل عليه المؤلف كمكافأة مقابل نشر كتبه بمؤسسات النشر الحكومي".

و كشف طوسون أنّ" المثقف في بلادنا يحتاج إلى مؤسسات كُبرى متخصصة في التسويق والرعاية والإعلان- نفتقد وجودها- تقف خلف الكتاب، كما يحتاج إلى تفعيل دور منظمات المجتمع المدني في دعم الثقافة والمثقفين وإيمانها بهذا الدور وأهميته في تفعيل دور الثقافة بالمجتمعات العربية لإحداث نهضة ثقافية وعلمية أشد ما تحتاجها بلادنا. كما يجب أن يأخذ المؤلف نسبة ما على تداول كتبه وقراءتها بالمكتبات العامة، ونسبة ملزمة للمؤلف تدفعها مكتبات وزارة التربية والتعليم حين تتعاقد على شراء الكتب من الناشرين. وهنا تبرز أهمية كيانات خاصة كاتحاد الكتاب في الوقوف وراء مثل هذه المطالب وتفعيلها.. كما يبرز دور اتحاد الكتاب في توفير الرّعايَة الصّحيّة المُناسبة لأعضائه وأن تمتد لأكبر قطاع ممكن من المثقفين، والوقوف معه ضد جَور الناشرين وتفعيل حقوق الملكية الفكرية وأهمية أن يدعم رجال الأعمال الكيانات الخاصة التي تهتم برعاية الأدباء والفنانين".

ويستدرك:"لكن كل هذه الاقتراحات لا تؤدي إلى حلول حقيقية للمشكلة.. الحل الحقيقي يتمثل في سياسات تعظم من دور الثقافة والعلم في المُجتمعات، وعدم تهميشهما لصالح الأنماط الاستهلاكية والدّعائية، وتعيد للمثقف مكانته التي يستحقها"

أزمات اقتصاديّة مُستفحِلة

ومن مصر إلى البحرين؛ حيث أفصح القاص والرّوائي البحريني أحمد المؤذن عن رؤيته لواقع تلك القضيّة بقوله:"الواقع المعيش اليوم يطرح جملة من التحدّيات أمام المُجتمعات وكون الكاتب فرد من نسيج المُجتمع الإنساني ( العربي تحديدًا ) فهو ابن بيئته ويتأثر بكلّ ما يمر على هذا المُجتمع من مشاكل وتأزّمات .. فالمواطن العربي تغلِب عليه صفة مَحْدودِيّة الدّخل وتطحن جيبه أزمات اقتصادية مُستفحلة، لا تستثنيه إن كان كاتبًا أو شاعرًا يشغر مقاعد الصف الأول في الساحة !
ففي أغلب الأحْوال، الكاتب مُرتبط بدوّامَة الرّوتين ضِمْنَ جريدة يومية أو في مجلة هنا أو هُناك، أو حتى مجال آخر بعيد عن كواليس الكتابة و الحِبر، يتقاضى معاشا شهريًا هزيلا لا يكاد يفي بمتطلباته الحياتيّة والأسرية. لكن أرق الكتابة يستمر في الإلحاح ولا بد من مخرج لتنفيس هذه الطاقة، حيث أن قدر الكاتب أن يستمر في رفد ساحته الثقافيّة، النتيجة أن الكاتب في سعيه من أجل طباعة مشروعة الأدبي يلجأ للمراكز الثقافية من أجل الحُصُول على رعاية لمشروعه وغالبًا ما يُصاب بالإحباط وتصل جهوده لِطريق مَسدود، فيُحمّل نفسه عناء التمويل الذاتي ويبادِر بالتوفير من رَاتِبه الشهري أو لنقل بمعنى أدق .. الرّجل يسلخ من جلده كيْما يظهر مشروعَهُ الكِتابي للنور، فالناشر لا يقدم نفسه كدار خيرية تقدم خدماتها الثقافية لوجه الله ! "
وأضاف المؤذن مُسلطًا الضّوء على المزيد من الحقائق بقوله: "نعم يكثر الحديث والضّجيجُ الإعلامي عن دُور نشر تدّعي دَعْم مَسِيرة الثقافة العَرَبية وتشجيع حركة التأليف لكن الواقع أن هناك فرق شاسع مابين الشعار وإشكالية مأزقنا الحضاري الرّاهن ، فنحن أمة لا تقرأ وأي ورقة مطبوعة في كتاب أو مجلة تتحول لشيء هامشي عند الرصيف تلعب بها الريح أو تصبح كأيّ وَرَقة عاديّة تلف بها شطائر الفلافل في العواصِم العربية! هنا تتعمق مشاكل الكاتب أكثر .. فالكتاب لا يُعتبر سِلعة ثقافيّة قابلة للتداول بالنسْبة للسّواد الأعْظم من الجَمَاهير العربية .. من المُمكن أن يكون ديكورا مُكملاً لأناقة البيت أو حتى وَجَاهَه شكلانية تصلُح لتكون تباهيًا فارغا في واجهة صالون البيت تعطي الزوار انطباعًا خادِعًا عن صاحِبِه أنه إنسان مثقف بإمتلاكه لمكتبة"

وعن الحلول الكفيلة بالتّغيير فيرى المؤذّن أنّ:" الجهات المعنيّة بالثقافة – وزارت الثقافة ، الأندية والجمعيات الثقافية - يقع عليها عِبْء وضع الخطط المُمَنهجة لإنصاف الكاتب ومُسَاعدته في طِباعة و ترويج منجزه الأدبي حتى لا يُتاجر أحد بتعبه أو يَسْلب منه حقوقه باسم دعم الثقافة ! أيضا .. من المهم أن تكون هناك تجمعات ثقافية من داخل المجتمع العربي ، مهمّتها التشجيع على القراءة وترويج الكتاب من أجل تغيير الصورة النمطية السائدة في أن القراءة مجرد ترف فكري ، هذه المبادرة ولا شك سوف تسهم في خلق حراك ثقافي يدفع بالكاتب إلى المزيد من الإنجاز. كذلك بالإمكان إنشاء مراكز ثقافية تخلد عطاءات المبدعين الكبار، تقوم بدعم نشاط التأليف ومُساندة الكاتب العربي وتقديم التسهيلات اللازمة إليه كجزء من تحريك السّاحة الثقافية العربية ومدها بأكسجين الأفكار و الرؤى الحضارية التي تسهم في رقيّنا. كما أنه يقع على الدولة القيام بدور أكبر من خِلال إنشاء مَحَافِظ استثمارية يُخصص ريعها لدعم المثقف في إبداعه و حراكه المجتمعي و العناية به في مَرَضِهِ ، هكذا نكون قد أنصفنا المثقف و منحناه المكانة التي يستحقها ليقوم بدوره كسفير حضاري يَسْمو برِسَالته ويُمثل بلده و أمّته، فليسَ وحْدهُ الرّياضي من يحتكرُ هذا الدّور!!"

حلمٌ بحَصَادِ الثّمر

بينما أفصحت الكاتبة العراقيّة صبيحة شًبّر عن رأيها قائلة: "في بلداننا العربية يتزايد حِرمان المواطن وتتضخم مُعاناته، لا حلول مُنصفة لما يرجو ويتمنى، يظل يحلم بتحسن الحال، فإذا الأيّام تمضي وحالته تسوء، ويشعر بمرارة شديدة، و يكون الشعور بخيبة الآمال عند المُبدع اشد من غيره، بسبب شعوره المُرهف و لأنّ إبداعه يُكلّفه الكثير من المَال والجُهد والوقت، ويظهر له المنافسون بكثرة، يضعون في طريقه العقبات، لا يتورّعون عن سلب الوقت وعدم إتاحته للمُبدع، كي يُطوّر نفسه ويصقل أدواته الفنية. الوظيفة ومتاعبها ورغبات كثيرة للنفس والغير بتوفير المسكن المناسب والغذاء الصّحي واللباس الأنيق المُحْترم، والعناية بالصّحة وإيجاد ساعات للترفيه والرّاحة من عناء العَمَل، والتخلص من التوتر الذي يفرضه الفشل في الوصول إلى الغايات، كل هذه الأمور تحد من انطلاقة المُبدع. لهذا يهجُر المُبدعون مضطرين إبداعهم بحكم العمل البعيد عن اهتمام العامل وكفاءته ورغبته، فتصْبح الحياة قاسية لأن المرء لم يستطع فيها التعبير عن نفسه المكلومة"
وأوضحت صبيحة قائلة: "تتعدد أسباب التخلف في العالم العربي وأوّل هذه الأسباب ضياع حقوق المواطن وشعوره أنه عاجز عن تحقيق أحلام بسيطة يصل اليها الإنسان في العالم المتمدين بسهولة، ومن حقنا أن نتساءل عن مسؤولية وضعنا المزري هذا؟ لماذا نجد الأُمم تفخر بمُبدعيها، ونحن يكثر بيننا السّارقون والسّالبون جهود المُكافحين من أجل حياة أفضل، ولماذا نجد سَارقي الفكر وتعب القلب والعاطفة بدون عقاب؟ ولمَ تفتح أبواب النجاح للمدّعين وتغلق أمام الموهوبين الصادقين، ولماذا يفقد الموهوب عندنا القدرة على المواصلة، ويُرغم على الصّمت؟ ولماذا يظل المُبدعون محرومين من رفاه العيش، لا يملكون من أمور حياتهم إلا النزر اليسير، فيُضطر أكثرهم إلى تحمّل أوجاع الاستدانة، أو الصّبر على المرض، لأن الضنك الذي يئنون مِنه لا يُفارق حيواتهم، ولمصلحة من يستمر هذا الوضع المأساوي، الذي لا يمكن أن نحلم أنه سوف يوصلنا إلى طريق النجاح؟ ألا يحق لنا أن نأمل أن تأخذ الدولة بيد المبدعين فتقوم بطبع أعمالهم وتوزيعها ومنحهم المكافآت التي تتلاءم مع جهودهم، وأن يتمتع المُبدع بالتفرغ كي يقوم بإجادة الإبداع وتطويره؟

وتُنهي حديثها بالتساؤل: "كيف يُمكن أن تتحقق أحلامنا وكل شيء بعيد المنال، لا سكن صحي ولا قدرة على السّفر والتجول في أرض الله الواسعة، يمضي العمر شقاءً وتعبًا وحرمان من أبسط الحُقوق، ونحن نحلم باستمرار أن أيّام العمر الآفلة سوف تزهر، وأن ما غرسناه بسواعدنا نحصِد مِنه أحْلى الثمر"