البحث العلمي و التطوير في مجتمع المعلومات

لئن شكلت الآلة السبب الرئيسي في تحويل الشعوب من مجتمعات زراعية إلى مجتمعات صناعية، فإن المعارف العلمية و التكنولوجية هي التي نقلت المجتمعات الصناعية إلى عصر الثورة الرقمية حيث اندمجت مناطق المعمورة قاطبة في قرية افتراضية كونية واحدة. في هذا العالم الجديد المندمج، تقلص الزمن و تلاشت المسافات، و أضحت المعلومات و السلع و الأفكار و الأموال تنتقل بسرعة فائقة غير معترفة بالحدود الوطنية أو بفارق الوقت بين مختلف الشعوب.
إن حقائق عصر العولمة، الذي بدأنا نعيشه، تشير إلى أنه لا يمكن لشعب أن يفوز بموقع متقدم بين الأمم إلا إذا تسلح بالعلم، و أخذ بالتفكير العلمي كأسلوب في التعامل مع الآخر و في تسيير الأمور العامة والخاصة . و أصبح الاعتقاد السائد بأن سر التفوق و مفتاح الوصول إلى مرتبة الأمم الغنية والقوية والمتقدمة إنما يكمن في تأصيل العلم و توطين التكنولوجيا. لذلك تهيأت الدول و خاصة منها المتقدمة لإعداد العناصر الكفيلة بتوفير بيئة تمكينية تساعد على كسب رهانات البحث العلمي و التطوير، من أهمها تعزيز الخبرات البشرية المؤهلة و توفير التمويل الكافي و تأمين لارتباط بين مؤسسات البحث العلمي و بين القطاعات المنتجة.




تأهيل الخبرات البشرية
تتمثل أهم واجبات التعليم العالي في تطوير التقنية وتقديم المهارات و تجديدها وإعادة تدريب المحترفين و ذلك للتغلب على نسيانهم السريع لمعرفتهم العلمية، خصوصا أمام التقدم المتسارع في التقنية و مخرجاتها. و ينبغي أن يرافق هذا المنحى العلمي إعادة النظر في الأسلوب المتبع في التعليم بالجامعات، بحيث تتحول تلك الجامعات من جعل فلسفة البحث العلمي والتقنية جزءا من التعليم إلى جعل التعليم رافداً أساسياً للبحث العلمي و ترسيخ التقنية. و بعبارة أخرى، لا تنتهي علاقة الخريجين بالتعليم بمجرد تخرجهم من المدارس أو الجامعات أو المعاهد، بل يظل الجميع في حالة تعليم و بحث مستمرين.
و قد كشف تقرير للبنك الدولي بعنوان "المعرفة طريق التنمية" عن أوضاع المعرفة و فجوتها بين الشمال والجنوب في نهاية القرن العشرين، و بيّن هذا التقرير أن 5.2 مليون عالما في المعمورة يتوزعون بشكل غير متوازن وغير عادل بين بلدان الشمال والجنوب على النحو التالي : أوروبا 20.2%، أمريكا الشمالية 17.8%، آسيا 32.4%، أوقانيا 23.6%، أميركا اللاتينية والكرييبي 3.1%، الدول العربية 1.5% و أفريقيا 0.7%.



و فضلا عن مؤشرات البحث و التطوير السابقة، هناك مؤشر هام يتمثل في حجم الإنتاج العلمي من البحوث. فإنتاج المعرفة يشكل المرحلة الأرقى لاكتساب المعرفة في أي مجتمع و المدخل الأوسع للانخراط في مجتمع المعرفة العالمي. و يمكن بشكل عام قياس هذا الإنتاج من خلال المنشورات العلمية و براءات الاختراع و الابتكارات. و حسب تقرير التنمية الإنسانية لسنة 2003، فإن مؤشر المنشورات العلمية الذي يقاس بعدد البحوث المنشورة في دوريات عالمية محكّمة لكل مليون فرد، و الذي بلغ، في سنة 95، 26 في مجمل البلدان العربية و 42 في البرازيل و 840 في فرنسا 1252 في هولندا و 1878 في سويسرا. أما المؤشرات المتعلقة بعدد براءات الاختراع المسجلة في بعض البلدان خلال الفترة المتراوحة بين سنتي 1980 و 2000، فهي تؤكد التفاوت الواضح في ممارسة نشاط البحث و التطوير و تثمين نتائجه. ففي حين لم يتعدى هذا العدد حوالي 500 في مجمع الدول العربية، 90% منها في مجالات الكيمياء و الزراعة و الهندسة، بلغ 7652 في إسرائيل و 16328 في كوريا معظمها في الحقول المتقدمة مثل تكنولوجيا المعلومات و الاتصال و البيولوجيا الجزئية.
تمويل البحث العلمي
تخصص الدول المتقدمة مبالغ مالية هامة و متزايدة من أجل البحث العلمي لأنها تعتبر ذلك استثمارا هادفا يمكن من جني أرباح أكيدة. بينما لا تشكل مخصصات البحث العلمي في الدول النامية و خاصة منها الدول العربية إلا نسبة ضئيلة من ناتجها القومي الإجمالي. فحسب إحصائيات منظمة اليونسكو لسنة 2004، خصصت الدول العربية مجتمعة للبحث العلمي ما يناهز 1,7 مليار دولار أي ما نسبته 0.3 في المائة من الناتج القومي الإجمالي، بينما خصصت دول أمريكا اللاتينية والكاريبي 21,3 مليار دولار أي ما نسبته 0.6 في المائة من الناتج القومي الإجمالي. و خصصت دول جنوب شرق آسيا 48.2 مليار دولار أي ما نسبته 2.7 في المائة.
أما على مستوى البلدان، في سنة 2002، فقد خصصت السويد ما يفوق 10 مليار دولار أي ما نسبته 4.27 من ناتجها القومي الإجمالي، و خصصت فنلندا حوالي 5 مليار دولار أي ما نسبته حوالي 3.5 في المائة من ناتجها القومي الإجمالي، و خصصت اليابان حوالي 107 مليار دولار أي ما نسبته حوالي 3 في المائة من ناتجها القومي الإجمالي، و خصصت الولايات المتحدة الأمريكية حوالي 275 مليار دولار أي ما نسبته حوالي 2.7 في المائة من ناتجها القومي الإجمالي. و أما إسرائيل، فقد خصصت 6.1 مليار دولار أي ما نسبته 4.7 في المائة من ناتجها القومي الإجمالي، وهو مبلغ يفوق ما تخصصه كل الدول العربية مجتمعة بنحو ثلاث مرات و نصف، ممثلة بذلك أعلى نسبة في العالم.
و على صعيد آخر، أولت دول جنوب و شرق آسيا أهمية متزايدة للبحوث والتطوير، إذ رفعت كوريا الجنوبية مثلا نسبة إنفاقها على البحث العلمي من الناتج المحلي الإجمالي من 0.6 في المائة في عام 1980 إلى 2.92 في المائة في عام 2003. أما ماليزيا فقد أصبحت، بفضل سياستها العلمية والتقنية، الدولة الثالثة في العالم إنتاجا لرقائق أشباه الموصلات، وأكدت في خطتها المستقبلية لعام 2020 على الأهمية الخاصة للعلوم والتقنية في الجهود الوطنية للتنمية الصناعية والمنافسة على المستوى العالمي.
و يعد القطاع الحكومي الممول الرئيسي للبحث العلمي في الدول النامية، إذ يفوق في معظم الحالات 90 في المائة من مجموع التمويل المخصص للبحوث والتطوير مقارنة بنسبة 3 في المائة يخصصها القطاع الخاص و7 في المائة توفرها مصادر مختلفة. وذلك على عكس الدول المتقدمة وإسرائيل، حيث تبلغ حصة القطاع الخاص في تمويل البحث العلمي حوالي 74 في المائة في اليابان و 73 في المائة في كوريا الجنوبية و 72 في المائة في السويد و 70 في المائة في فنلندا و 65 في المائة في ألمانيا و الولايات المتحدة الأمريكية و حوالي 50 في المائة في إسرائيل و الدول الأخرى.
التعاون بين مؤسسات البحث العلمي و قطاعات الإنتاج
يتعمد البعض المفاضلة في البحث العلمي بين ما هو نظري و ما هو تطبيقي، و هذا الأمر يتعلق بتقابل مصطنع لا يمثل الطبيعة المتكاملة لحاجات الشعوب في التنمية. و كما قال أحد الحكماء في هذا الشأن: "البحث النظري بدون البحث التطبيقي هو أجوف و البحث التطبيقي بمعزل عن البحث النظري هو أعمى".
إن ما يزيد من أهمية البحث هو عملية تطبيق نتائجه في الواقع ميدانيا، لذلك، لا بد من تأمين الربط الوثيق بين مؤسسات البحث العلمي والتطوير مع قطاعات الإنتاج المختلفة، لما يمكن أن يلعبه هذا التقارب من دور كبير في التنمية الشاملة وتطور كلا القطاعين. فبالنسبة إلى القطاعات المنتجة، يؤدي الربط إلى تطوير الإنتاج وتحسين نوعيته مما يدعم قدراتها التنافسية على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، فضلا عن رفع القدرات التقنية للعاملين بها من ناحية وتوفير قواعد معلومات يستفيد من خدماتها المنتجون من ناحية أخرى. أما بالنسبة إلى مؤسسات البحث العلمي والتطوير، فإن هذا الربط يؤدي إلى دعم البنى البحثية وزيادة الموارد التمويلية لهذه المؤسسات فيمكنها من زيادة قدراتها، وتأهيل كوادرها لمواكبة التطورات التكنولوجية، فضلا عن توفير التغذية الناجمة عن القطاعات الإنتاجية المساعدة في تحديد الأولويات البحثية.
وما توصلت إليه الدول الصناعية من تقدم علمي ونمو اقتصادي مرده إلى توفر استراتيجيات تحقق التزاوج بين متطلبات القطاع الصناعي و خريجي المراحل التعليمية وبرامج البحث والتطوير في القطاع البحثي، خصوصاً وأن وسائل المعرفة والبحث العلمي تلعب دوراً رئيسياً ومباشراً في الوقت الحالي ومستقبلاً لإيجاد الحلول لمشاكل الصناعة وتطويرها. و قد أكدت اتفاقيات المنظمة العالمية للتجارة (wto) على عدم تقديم الدول المنخرطة الدعم والمساعدات المالية للمنتجات الزراعية والصناعية وغيرها. و لكنها شجعتها على المساهمة الفعالة في عمليات دعم برامج البحث والتطوير. فهي وسيلة الابتكار العلمي المؤدية إلى إصدار براءات اختراع تعتبر الطريقة المثلى لامتلاك التقنية و احتكارها.
إن العلوم و إبداعاتها تمثل اليوم عنصرا أساسيا في دعم الاقتصاد. ففي الولايات المتحدة الأمريكية، مثلا، قدمت تقنيات المعلومات، للاقتصاد الأمريكي، مبالغ خيالية، إذ تضاعفت الاستثمارات بين عامي 1995 و 1999 من 243 مليارا إلى 510 مليار دولار، و شكلت منها البرمجيات حوالي 150 ملياراً. و الحاصل من كل ذلك أنه بالرغم من أن رأسمال تقنيات المعلومات لا يشكل إلا 6% من حجم المؤسسات الخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، فهو قد أثمر حوالي نصف النمو الاقتصادي في نهاية التسعينات. أما الهند المصنفة ضمن قائمة الدول الفقيرة النامية، فقد مكنها استقطابها لصناعة تقنية المعلومات من أن تصبح، في سنة 2003، المصدّر الرئيسي للبرمجيات إلى معظم بلدان العالم و خاصة الدول المتقدمة منها إذ شمل هذا التصدير حوالي 62% إلى الولايات المتحدة الأمريكية و 30% إلى أوروبا. و تشير التوقعات الاقتصادية إلى أن قطاع تكنولوجيا المعلومات و الاتصال الذي يشهد سنويا نسبة نمو تفوق 40%، سوف يكون مصدر نمو ناتجها المحلي الإجمالي بنسبة تتراوح بين 7 و 8 بالمائة في سنة 2008. و حينها ستتخطى قيمة صادراتها في هذا المجال قيمة 60 مليار دولار سنويا، وهو مبلغ يزيد على ميزانية عدة دول مجتمعة. و يعود السر في كل هذا النجاح إلى المراهنة على العقول الذكية و استثمار نتائج بحثها و تثمينها في الدورة الاقتصادية. و ينطبق هذا جليا على الهند، في مجال تكنولوجيا المعلومات. ففي هذا البلد يشتغل حاليا، حوالي 500 ألف مختصا في تطوير و البرمجيات صناعتها. و يتوقع أن يتضاعف هذا العدد خمس مرات ليصل إلى حوالي مليونين و نصف بحلول سنة 2008.

عبد المجيد ميلاد
صدر بجريدة "الصباح" في 29 أكتوبر 2005