الأمير عبد القادر الجزائري فارس السيف و القلم.

--------------------------------------------------------------------------------



سهل اغريس، قريبا من مدينة معسكر بالغرب الجزائري، كانت تعيش عائلة سيدي محي الدين الشريف، مستقرة في قبيلة بني هاشم. حيث استقر هو و عائلته على الضفة اليسرى من وادي الحمام غربي مدينة معسكر العريقة، وبالضبط في منطقة القطنة .
كان سيدي محي الدين الشريف، رجلا تقيا،وورعا، حافظا لكتاب الله، متمرسا في علوم الشرع و اللغة ، يلتف حوله جماعة من رجال الدين، وطلاب المعرفة، لدراسة العلوم القرآنية مجانا، خاصة الآداب والحقوق و التوحيد، وكان كذلك جوادا، سباقا للخير، حيث كانت زاويته قبلة للطلاب، وملجأ لليتامى، وسلاما للمساكين، وعزاء للمحرومين.
في مطلع سنة 1223ه الموافقة لسنة 1808م، ولد عبد القادر بن محي الدين بن مصطفى بن محمد بن المختار بن عبد القادر بن أحمد بن محمد بن عبد القوي بن يوسف بن أحمد بن شعبان بن محمد بن إدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن فاطمة الزهراء عليها السلام بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عاش طفولته الأولى في بيت علم ودين وتقوى، وترعرع في ربوع العبادة و الورع،حيث نهل من نبع القرآن أسراره،و شرب من مورده دقائق اللغة وعلومها، ونشأ في مضارب الفروسية و الشجاعة، فتعلم فنون القتال، والفروسية منذ نعومة أظافره، على أيدي فرسان، شجعان أشاوس.
كلف سيدي محي الدين الشريف القاضي سيدي أحمد بن الطاهر، قاضي (آرزو) بتدريس ولده عبد القادر العلوم الحديثة:علم الفلك، والحساب، والجغرافيا، وأطلعه على الشؤون الأوربية، حيث كان طالبا نجيبا، سريع البديهة، كثير الفهم، ذكيا فطنا، واسع الخاطر، سليم الصدر، شجاع القلب، قوي الشكيمة، حذقا، لبقا، كثير الصمت، كثير التدبر، مما أهله إلى أن ينال إعجاب الجميع، فلحظته العيون بالتقدير و الاحترام و التبجيل.
و لما الرابعة عشرة من عمره، أرسله والده إلى مدينة وهران، ليزداد علما في مدرسة سيدي أحمد بن خوجة، فلم يمكث فيها إلا سنة واحدة، ورجع إلى زاوية أبيه ليدرس على يديه ما تبقى من العلوم، بين طلبة منطقته، وقد ترك وهران محزونا،آسفا على الأوضاع المزرية، والمحزنة بسبب الفساد و الفوضى التي أحدثها ميليشيات الأتراك، وجور الولاة، و ظلمهم، حيث عانى الأهالي الجوع و القهر و الجهل و الحرمان.
تزوج عبد القادر بابنة عمه لالة خيرة بنت سيدي علي بو طالب، فلم ينعم براحة الحياة الزوجية، إذ كانت تنتظره مهمة تاريخية عظمى، ومسؤوليات جسام.

زار سيدي محي الدين البقاع المقدسة، رفقة ولده لأداء مناسك الحج سنة 1826م، وبعد أن أتما مناسك الحج، توجها إلى بغداد، حيث زارا قبر سيدي عبد القادر الجيلاني، ثم رجعا إلى الجزائر حوالي منتصف 1829م، بعد سفر دام ثلاث سنوات، وإقامة عبد القادر بالمشرق مكنته من زيارة عدة بلدان عربية، وأعجب ببعض حكوماتها، وهذه الجولة زودته بأفكار ونظريات ساعدته في المهمة التي كانت تنتظره بالجزائر.
وأصبح الحاج عبد القادر في (القطنة) يتمتع بشعبية كبيرة، وقد رأى والده سيدي محي الدين في منامه، وهو في بغداد، ملاكا يبشره بأن ولده عبد القادر سيصبح سلطانا وسيحكم المغرب كله؟
بعد غزو فرنسا مدينة وهران سنة1832م، اجتمع رؤساء القبائل في 21 نوفمبر1832م في أرسبيا بسهل اغريس، واتفقوا أن يمنحوا السلطة إلى سيدي محي الدين، بعد أن رفضت القتال الوحدات التركية المستقرة بقلعة الماشور في مدينة تلمسان.
ورفض سيدي محي الدين هذا المنصب، فقال رؤساء القبائل :< إذا لم ترد أن تتنصب علينا قائدا، فمكن ابن الزهراء الذي هو رجل حرب>. فرفض محي الدين ثانية، ولكن في 22 نوفمبر، وبعد إلحاح كبير منهم وقد جس ابنه حول طريقة الحكم والقيادة إذا مادعي لتقليدها،وقد كان جواب عبد القادر:< سأحكم وكتاب القانون بيدي، وإن أمرني القانون بإدماء عنق أخي لفعلت>. وعندئذ استجاب محي الدين مطمئنا، وقدم للشعب القائد الجديد قائلا :< هو ذا السلطان الذي أعلنت عنه النبوءة، إنه ابن الزهراء، أطيعوه كما أطعتموني، وكان الله في عون السلطان >.ووجدت المقاومة أميرا جليلا، وقائدا محنكا، وفارسا مغوارا، فكان جديرا بها.
وبدأت مسيرة الجهاد،وهيأ جيشا من الفرسان المغاوير، وجعل على كل كتيبة قائدا له باع في الحرب والقتال وأعطى فرنسا دروسا في ساحات الوغى، وحير قادتها، وأدخل الرعب والفزع في قلوب الجنود الفرنسيين
خاصة القائد بيجو الذي كبده جيش الأمير،خسائرا لا تحصى ولاتعد في الأرواح والعتاد، مما اضطره إلى طلب الهدنة والسلام، فقبل الأمير عبد القادر وعقد معه معاهدة التافنة بمدينة وهران بشروط المنتصر في 26 من شهر صفر سنة 1253هجرية الموافقة للفاتح جوان سنة 1837م، وفي هذه المعاهدة اعترفت فرنسا بالدولة الجزائرية الحرة.
اهتم الأمير عبد القادر بشؤون الدولة الفتية، كما اهتم بأمور الرعية، فأصلح الطرقات وشيد المدارس،وبنى المصانع والمستشفيات، كما اهتم بشؤون الزراعة والفلاحة، وكون جيشا قويا، فساد الرخاء في عهده، وعم الأمن والسلام.
وفي 20نوفمبر سنة1839م شن الأمير عبد القادر هجومه على متيجة، بعد أن خرق الماريشال فالي معاهدة التافنة، وقد أخطر الأمير الفرنسيين بالهجوم وقتل منهم الكثير، وفي ماي 1841م أبلى جيش الأمير البلاء حسن في موقعة الثنية. واستأنف القتال هنا وهناك إلى غاية نوفمبر 1845م، حيث توجه الأمير نحو الجنوب والتوغل في الصحراء، وصعد نحو الونشريس، وبعدها التحق بابن سالم شرقي برج حمزة، غير أن الوضعية المأساوية التي كانت تشمل القبائل سنة 1847م أجبرت الأمير على الاستقرار مع دائرته على الحدود المغربية. وعقد الأمير آخر إجتماع مع من بقي من جنود وقادة وأنصار. وبعد خيانات ومؤامرات اضطرت الأمير إلى الاستسلام.
لم يشترط الأمير عبد القادر على الفرنسيين إلا شرطا واحدا وهو الانتقال رفقة عائلته وأهم ضباطه إلى عكا أو القسطنطينية أو الإسكندرية فوعده الجنرال الفرنسي بذلك ثم أخلف بوعده والتزاماته، فعوضا عن هدنة، كان السجن مصير الأمير عبد القادر وضباطه: في حصن فورلامالغ في طولون إلى أفريل 1848م، ثم إلى< بو> حتى نوفمبر 1848م، ثم نقل إلى < آمبوز> لغاية 1852م، ولم يغادر التراب الفرنسي إلا في ديسمبر سنة 1852م،وأقام في< بروس> ثم نفي إلى دمشق التي بقي بها إلى أن عاجلته المنية في شهر ماي سنة 1883م وطوال مرضه لم ينقطع عن الصلاة وتلاوة القرآن، عاش عبد القادر 76 سنة، منها 17 سنة قضاها في الجهاد و 36 سنة في المنفى و أوتي برفاته بعد الاستقلال ودفن بالجزائر.
ترك الأمير عبد القادر ديوان شعر وعدة رسائل ومقالات فلسفية وحكم وأقوال، رحمه الله رحمة واسعة ورحم جميع الشهداء وتحيا الجزائر والعرب.
منقول ...
مجلة الابتسامة..
امال جداي