وما كثرة الشرود وتناقص القدرات العقلية والتواصل الاجتماعي والتركيز إلا أعراض يعيش جحيمها المكتئب دون أن يدري أي شيء عما يعانيه بسبب تشتته وضياعه، فهو واقع في دوامة ولا يستطيع أن يعبر بشكل صحيح، كما لا يستوعب ما يوجهه إليه مُخاطِبوه بالشكل الكافي، لذلك فإن المريض يحتاج أولاً إلى من يعرفه بمرضه، ولأن المرض شبه مجهول بالنسبة إلى معظم أبناء مجتمعنا نجده منتشراً دون لجوء إلى العلاج من قبل أقارب وأصدقاء المريض، هذا العلاج الذي يبدأ من المعرفة والوعي وعدم الخوف، بل إن المجتمع ينظر إلى المكتئب الذي يلجأ إلى عيادة الطبيب النفسي على أنه مجنون أو مختل وخارج عن الأطر الاجتماعية الصحيحة ويتجه إلى نبذه ولومه بسبب التقصير في واجباته، لذلك لا يملك المكتئب جرأة كي يلجأ إلى الطبيب - هذا إذا ملك القدرة على ذلك - .


يقول (يوسف .ق): (طالب في جامعة دمشق - كلية الطب البشري): أشعر بالغربة، وأتردد بشكل سري على العيادة دون علم أهلي أو معارفي بذلك، ولكن تكاليف العلاج تضطرني إلى أن أستدين من الأصدقاء، وهذا يزيد من حدة القلق عندي .


حتى بين طلاب الجامعة يبدو المرض شبه مجهول، فبعد أن سألنا أكثر من عشرين طالباً وطالبة عما يعرفونه عن مرض الاكتئاب قال بعضهم: لا نعرف شيئاً، وبعضهم أجاب: الاكتئاب يعني الحزن واليأس، وآخرون لم يعترفوا به: لا يوجد شيء اسمه اكتئاب أو مرض نفسي، هذا كله وهم .


ليس الغرض من هذا التحقيق أن نضع حلولاً أو وصفات علاجية، إذ إن مرضاً تعانيه الشريحة المثقفة الشابة في المجتمع لا يعالجه إلا المجتمع بأسره عبر تأمين فرص عمل لمن يعانون من البطالة وتحسين المستوى الاقتصادي والنظر إلى المرض على أنه من الأمراض التي قد يقع فيها أي فرد منا، وعلى أن الإنسان الذي لا يعاني من أي عرض من عوارض الأمراض النفسية إنسان غير طبيعي (أعطني إنساناً طبيعياً لأعالجه . . الطبيب النفسي: يونغ) .


الغاية أن نخرج هذا المرض من الخفاء إلى العلن، لأنه إذا استمر على هذه الحال ستزداد نسبة المكتئبين الجامعيين بشكل لا نظير له خلال السنوات المقبلة، خصوصاً إذا علمنا أن المرض ينتقل بالعدوى عن طريق المعاشرة المستمرة والتعايش، وبالتالي ستغلب نسبة المكتئبين غير المكتئبين، وفي المستقبل سيجتاز الشباب المكتئب مراحل عمره ويتزوج وينجب أطفالاً، وبالتأكيد لن يكونوا أطفالاً طبيعيين، هكذا ينتشر المرض في جسد المجتمع كالسرطان في جسد الإنسان، والمكتئب في هذه الحالة غير ملوم،إلا إذا علم بمرضه ولم يقْدِم على محاولة العلاج بأسهل الطرق وأقربها، لأن لكل إنسان إرادة كائنة مهما عانى ومهما كانت ظروفه