للمرأة أسبابها في معاناتها من الاكتئابات



لا يختلف اثنان من العلماء اليوم حول الحقيقة القائلة: إن النساء أكثر معاناة من الاكتئاب الرجال. ويعتقد أن الأسباب تمتد من التغيرات الهرمونية، كتلك التي تحدث في الدورة الشهرية أم عند الولادة أم في سن المرحلة الارتدادية (اليأس؟!)، مروراً بالمشكلات المتعلقة بالدور الأنثوي وصولاً إلى التمييز والظلم الاجتماعي الذي ما زالت تتعرض له المرأة حتى في أكثر المجتمعات ديمقراطية!!. وتظهر نتائج دراسة حديثة أجرتها كل من سوزان نولن-هوكزيما وكارلا غريسون و يوديت لارسون على 1100 راشد بين 25-75 سنة أن النساء يشعرن أكثر من الرجال بمشاعر الشك والحيرة واللاحول والسلبية. ويكمن السبب في أنهن يشعرن بقلة السيطرة على مجالات مهمة من الحياة. الأمر الذي يقود من ناحيته إلى إرهاقات مزمنة، تستجيب لها النسوة بانشغال سلبي وليس إيجابي. ومن ثم ينزلقن في حلقة مفرغة مسببة للمرض. فالانشغال يرفع من الإرهاق المزمن، والضغط المتزايد يقوي من الانشغال…وهكذا. والانشغال السلبي أو الخامد يزيد من الإرهاق لأنه يستهلك من الإنسان دافعيته وطاقته وقدرته على حل المشكلات، ومن ثم يصبحن غير قادرات على تحسين المواقف غير المرضية بطاقتهن الذاتية. أما مصادر الإرهاق فقد أمكن تحديدها بالإرهاقات المنزلية وتربية الأولاد بالإضافة إلى الأعباء المهنية للنساء العاملات خارج المنزل. إنهم أكثر "حملاً للهم"، وهذا يعني أنهم لا يفكرن بحياتهن الخاصة فحسب بل ويحملن هم الآخرين. وعلى الرغم من البذل والتضحية الكبيرة التي تقدمها المرأة إلا أنهن يشعرن بأنهن لا يحظين من أزواجهن بالاعتراف الكافي. ومن الطبيعي أن الإرهاق بحد ذاته لا يقود للاكتئاب، وإنما الأسلوب الذي تتم فيه مواجهة الإرهاقات والصراعات.




اكتئابات الولادة


وعندما تنزلق امرأة ما بعد الولادة في حالة اكتئابية، فإنها غالباً ما تلقى الصد والرفض وعدم التفهم من المحيط، إذ أن التصور هو صورة الأم السعيدة بطفلها.
فالطفل المنتظر قد ولد أخيراً ويتوقع الجميع من الأم الخارجة للتو من المخاض أن تكون سعيدة إلى أقصى مدى. أما أن تحزن الأم أو تكتئب بعد الولادة، فهذا لا يتناسب على الإطلاق مع التصور الشائع حول الأم. مع أن الدراسات تشير إلى أن حوالي 80% من النساء يعانين بعد الولادة من أعراض اكتئابية لأوقات محددة. ولدى 10 حتى 20% منهن ينطبق عليهن تشخيص "اكتئاب ما بعد الولادة".
يمكن لصيرورة الأم أن تشكل خطراً ممكناً على المرأة، ذلك أن هذا الحدث يمكن اعتباره حدثاً متطرفاً، سواء من الناحية الجسدية أم من الناحية النفسية. ويعد وقت التحول إلى أم وقت التحولات الكبيرة في حياة المرأة. فحياة المرأة كلها تقلب رأساً على عقب، وعليها أن تعيد تحديد هويتها (تماهيها) كأم وأن تتقبل هذا الدور وتمارسه. ومن هنا فليس من المفاجئ لنا أن نلاحظ ظهور "ذهانات النفاس" أو "اكتئابات ما بعد الولادة" تتكرر بعد ولادة الطفل الأول بالتحديد، حيث تشكل هذه النسبة حوالي 75% من الحالات.
أما الأمهات اللواتي يسعدن بمهمتهن الجديدة كأم، فإنهن يجدن أنفسهن فجأة أمام توقعات ضخمة، في أن يكن أمهات كاملات. فكل الفضائل والصفات التي يتوقع للأم أن تتمتع بها بما في ذلك الصبر والسهر وتحمل انتقادات الآخرين (الأخريات صاحبات الخبرة في التربية والتعامل مع الأطفال؟؟!!) لا بد وأن تتصف بها بشكل بديهي. ولكن ما يحدث في الواقع أن كثير من النسوة يشعرن – وبشكل قد يثير فيهن الرعب- بدلاً من هذه المشاعر في أعماقهن بنمو مشاعر الرفض والعدوانية تجاه الطفل في أعماقهن. الأمر الذي يقود لديهن إلى مشاعر الذنب، بسبب غياب الإحساس بذلك الحب العظيم المتوقع تجاه الطفل.
إنها مجموعة كبيرة من العوامل، الجسدية والهرمونية والبيوكيماوية والنفسية والاجتماعية تلك التي تشكل هذه الحالة المعقدة من المشاعر. فما هي بعض هذه العوامل؟



وقت "النفاس" أصبح مقنناً


يتوقع كثير من الناس من المرأة اليوم أن تقف على قدميها بعد أسبوع من الولادة على أبعد تقدير وتعود لممارسة نشاطاتها المعتادة. أما الفترة التي تطلق عليها فترة النفاس والتي كانت تستمر لأربعين يوماً" فلم تعد تولى أية أهمية، وأصبحت مجرد ممارسات لا معنى لها من مخلفات الماضي.
يحتاج العبور الفاعل نحو الأمومة إلى الوقت والدعم. وكثير من المجتمعات، منها مجتمعاتنا الريفية، ما زالت تدلل الأم بعد الولادة، إنها عملية اكتسبتها مجتمعاتنا القديمة بالفطرة والخبرة و جعلت لها طقوساً تتم رعايتها وصيانتها. وهي ليست عديمة المعنى على الإطلاق. وما تمت ممارسته لأجيال عديدة بصورة طبيعية يعاد اكتشافه وتصديره وتسويقه من جديد. ففي هذا الوقت تتم رعاية الأم بشكل "أمومي"، ذلك أنها قد عانت الكثير أثناء الحمل والولادة. ولا بد من الاعتناء بالأم وتدليلها إن صح التعبير، يُطبخ ويُغسل لها وتُطعم…الخ، وعليها طوال اليم ألا تفعل شيئاً سوى الاعتناء بطفلها والتعرف إليه وإلى حاجاته، وتتآلف مع دورها الجديد في الحياة. وفي هذه المجتمعات يندر للمرأة أن تعاني من الاكتئاب بعد الولادة.
غير أن الموقف يختلف كلية في المجتمعات الصناعية والمدن الكبرى. فالولادة تتم في المستشفى، حيث يندفع الجميع بعد الولادة لزيارتها في المستشفى دون أن يتركوا لها مجالاً للراحة والتأمل، ويتم فصل طفلها عنها لفترة زمنية تطول أو تقصر، تتوالى أثناءها الممرضات رعايته، وبعد الخروج من المستشفى يغلب أن تقضي الأم غالبية الوقت لوحدها مع طفلها، في حين يكون الزوج مهتماً بشؤونه الخاصة. فتجد نفسها فجأة وحدها دون خبرة، خائفة وحريصة على حياة رضيعها، تثقل كاهلها مخاوف الفشل، مما يدفعها بسرعة إلى أزمة وحتى اليوم لا يوجد أي جيل من النساء استطاع أن يتغلب على هذه المخاوف وحده. أما في الليل فقلما تجد الهدوء والسكينة، إذ عليها الاستيقاظ مراراً من أجل إرضاع طفلها أو تغيير ثيابه المبللة. ويشكل النوم المتقطع إذا استمر لفترة زمنية طويلة شكلاَ من أشكال التصفية الجسدية والنفسية. فليس من المفاجئ أن الأمهات الشابات يبدأن ضمن هذه الظروف بالشك في أنفسهن و أن يصبحن فاقدات الرغبة ومرهقات وتعبات ومتوترات، ويصبح مزاجهن متقلباً ويعانين من صعوبات في التركيز، والأرق.