(1)
من الحقائق التي لا يملك أحد طمسها و نكرانها- إذ هي أقوى من أن تطمس واظهر من أن تنكر- أن الإسلام منذ بواكير شروقه على العالم قد صبغ الحياة بصبغته التوحيدية البارزة وترك بصماته على كل شيء لمسه ووقع تحت تأثيره ׃ في النفس والمجتمع ... وفي الحياة والكون ... كما أن تأثير الانقلاب الجذري الذي صاحب الدعوة المحمّدية منذ إشراقه " اقرأ باسم ربّك الذي خلق" الأبجدية الأولى للعمل الإسلامي- لم يقف مدّه عند مساحة المفاهيم العقيدية والمسألة الاجتماعية والأعراف والخلق ... وإنما امتد قدما ليلمس أيضا الخطاب الثقافي السائد في المجتمع العربي حينذاك فيبعث فيه روحا إبداعيا جديدا.
(2)
وإذا كانت الظاهرة القرآنية قد شغلت- بإبداعية خطابها المؤثر وعمق مضامينها وجدّة أسلوبها- العرب عن قول الشعر والانبهار به وأخرست بإعجاز بيانها السنة الفحول عن النطق به فإن ذلك لا يعني أبدا كون الإسلام جاء ليحطّ من قيمة الشعر ويلغي دوره في الحياة ويعلم حربه على الشعراء ... وإنما الذي يجب أن يقر في الذهن- كما يقول الدكتور׃ يوسف خليف- هو أن القرآن قد اضعف من سيطرته ( أي الشعر) على المجتمع الأدبي الإسلامي بعد أن كان هو اللون الأساسي في الحياة الأدبية الجاهلية. وإذا كان لبيد بن ربيعة قد فكّر في أن يحطّم قيتارته – بعد أن اسلم وملك عليه الإسلام كيانه- فقد كان هناك غيره- مع دخولهم حظيرة الإيمان والإسلام- قد احتفظوا بقيثاراتهم دون أن يحطموها ... إن الرجّة الدينية والأدبية التي أثارها القرآن في نفوسهم وفي المجتمع الإسلامي من حولهم كادت تزلزل الأوتار في أيديهم وتجد الناس لا يجدون في فنّهم تلك المتعة الآسرة التي كان القدماء يجدونها في الشعر القديم. ( )
(3)
وإذا كانت الآراء قد اختلفت حول تقييم الشعر الإسلامي- قديمه وحديثه- فمنها ما يلحّ على صفة الضعف فيه ومنها ما يجزم بقوّته وازدهاره... فنحن مع الرأي الذي يرى أن الشعر- في ظلال الحياة الإسلامية- قد شهد أزهى فترات تقدمه وإبداعه وذلك بما تهيأ له في المناخ الإسلامي من أسباب القوة والتقدم والنهوض ׃ كالمصداقية وحرية التعبير والالتزام المسؤول إذ يكفي أن نعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يمّد شاعر الإسلام الأول حسّان بن ثابت رضي الله تعالى عنه- بالأسباب المشجعة على القول والإفصاح من مثل قوله له ׃
" لندرك مدى المصداقية والمكانة التي يتبوؤها الشاعر- والشعر- في المجتمع الإسلامي".
(4)
وقد فهم الشعراء هذا الدور الذي أولاه لهم هذا الدين ووعوا أبعاده... فكرّسوا قرائحهم في خدمة الدعوة وشحذوها لتحصين القيم والمثل السامية وترشيد الحياة الإسلامية والتغني بجمال الكون وإبداع الخالق... والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر....
كما انهم وطّنوا أنفسهم على الالتزام بقضايا الأمة وترجمة هموم المسلمين والإفصاح الصادق عن المعاناة الإسلامية .... ونظرة منصفة للتراث الشعري القيّم الذي تمخّضت عنه القريحة الإسلامية تشهد بصدق ما نقول...
ولعل في مقالات هذا الكتاب بعض الشواهد التي تكشف بوضوح عن ثراء ديوان الشعر الإسلامي وتنوع موضوعاته وعمق مضامينه وصدق التزام الشعراء الإسلاميين برسالتهم الثقافية ودورهم في الحياة.
المفضلات