صناعة الجوع!





الأمن الغذائي لأي مجتمع قضية محورية لا يمكن إغفالها أو تركها للظروف المتغيرة والتي لا يبدو أنها آمنة. خاصة في ظل الظروف الحالية المحفوفة بالمخاطر والمتغيرات السياسية والاقتصادية وحتي المناخية.
فالغذاء ضرورة حيوية للإنسان وإذا ما توافرت له حاجته من الغذاء بطريقة آمنة ومستقرة أصبحت حياته ميسورة وأموره مستقرة واتجه إلي التنمية والتعمير وبناء الحضارة وإذا ما حدث غير ذلك وانشغل الأفراد بقوت يومهم ساد القلق واهتز الاستقرار وبرزت المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بصورة أكثر حدة ومن ثم فإن تحقيق الأمن الغذائي يستلزم بالضرورة تنمية الزراعة والارتقاء بالقطاع الزراعي والذي يمكن من خلاله تحقيق الأمن الغذائي لكافة أفراد المجتمع.
وعلي الرغم من الجهود المبذولة علي الصعيد الدولي من خلال مؤسساته ومنظماته الدولية لمواجهة أزمة الغذاء العالمي إلا أن تقرير الأمم المتحدة الصادر عنها مؤخرا في سبتمبر 2010 أكد أنه يوجد أكثر من 950 مليون جائع في العالم أو ما يسمي أحيانا بسييء التغذية أي تقريبا ما يعادل سدس سكان العالم وهي مشكلة تنذر بأعظم الأخطار حيث تتسبب المجاعات في موت ما لا يقل عن طفل كل ست ثواني أي نحو 7200 طفل يلقون مصرعهم يوميا من الجوع وهو أمر كارثي ومخجل بكل المقاييس في ظل مجتمع دولي أصبح يسمي بالقرية الصغيرة نظرا لثورة المعلومات والاتصالات التي وصل إليها والأكثر من ذلك أن الإنسان اخترق الفضاء ووصل إلي سطح القمر والمريخ ولم يستطع الوصول إلي حد الكفاف لإطعام ما يقرب من مليار نسمة علي سطح المعمورة.
ولابد للمجتمع الدول أن يشعر بالخزي والعار من آلاف المليارات من الدولارات التي تنفق علي حروب وصراعات لا قيمة لها إلا حصد أرواح الأبرياء وانهيار الاقتصاد وتدمير الحضارات لدول عكفت عشرات السنين في بنائها وتنميتها وذلك بدعوي محاربة الإرهاب والتطرف في حين أنها تقف عاجزة أمام مشكلة تستطيع أن تكبح جماحها الذي يجتاح أرواح البشر مع العلم بأن هذه المشكلة "المجاعات" هي نفسها مصدر لتوليد الإرهاب والتطرف وإشعال الصراعات فإذا كانت هناك حرب فلابد أن تكون هذه الحرب ضد الجوع والفقر. لابد أن حل الأزمات يبدأ بحل أزمة الغذاء فالعقول لا تخاطب ولا تعي بشيئاً وبطونها فارغة ولكن للأسف يسير المجتمع الدولي في عكس هذا الاتجاه ولا يكترث لهذه الأزمة.
ورغم أن أزمة الغذاء لا تغيب عن صانع القرار في الأمم المتحدة إلا أنها دائما تدخل دائرة النسيان والتجاهل الدولي لتتسع وتتعمق فجوة الغذاء في الدول الفقيرة وتزداد فقرا علي فقرها.
وقد تبين من خلال تقرير الأمم المتحدة أن 40% من الجائعين في الهند والصين فقط ونحو 30% في وسط وغرب أفريقيا الأمر الذين يدين المجتمع الدولي الذي لا يكف عن النداءات بالعدالة والديمقراطية والتنمية وتحقيق الأمن الغذائي لكافة شعوب الأرض وعلي الرغم من التصريحات الأخيرة لمنظمة الأغذية والزراعة "الفاو" بانخفاض نسبة المجاعات هذا العام عن سابقه بالنسبة لسكان الأرض إلا أن مليار جائع رقم يمثل خطورة بالغة يجب التصدي لها ولخطورتها بالإضافة إلي أن الفقر يساعد علي انتشار الأمراض والجهل وهو ما يسمي اقتصاديا بثالوث البؤس العالمي ناهيك عن الانحرافات الأخلاقية وانتشار الرذيلة بكل أشكالها نتيجة الفقر المدقع الذي يعيش فيه مئات الملايين من البشر.
وبالرغم من هذا الجوع يوجد في المقابل وفرة في الغذاء والموارد وهنا تكمن الإهانة فليس هناك لفكرة أنه لا يوجد من الغذاء ما يكفي الجميع وليس صحيحا أننا قد بلغنا حدود طاقة الأرض القصوي للإنتاج.
فلا يمكن لعقل أن يستوعب أن هناك دولا تلقي بملايين الأطنان من الحبوب خاصة القمح في المحيط بالإضافة إلي اللبن والسمن والبيض.. إلخ وهي سلع ذات أهمية قصوي وذلك بدعوي الحفاظ علي أسعارها العالمية والعمل علي توازنها كيف يحدث ذلك ولمصلحة من كل هذه السخافات والافتراءات التي لا يقبلها أي عقل أو منطق أو دين.. أين الإنسانية وإني لأعجب كل العجب من دول تحاسب وتحاكم صائد سمكة يستخدم الخمر في اصطيادها ويعتبرونها إهانة كبيرة في الوقت الذي يموت فيه ملايين البشر من الجوع ولا تعتبر إهانة.
والسؤال الجدير بالطرح هو ما إذا كانت توجد موارد كافية لإنتاج الغذاء في البلدان التي يجوع فيها الملايين؟ وبالفعل فإن الموارد موجودة وبوفرة لكنها تعاني دائما من قلة الاستخدام أو من سوء الاستخدام مما يخلق الجوع للكثيرين والتخمة للقلة.. والدليل علي ذلك واضح تماما كسطوع الشمس حيث لا يزرع سوي ما يقرب من 47% من الأراضي الصالحة للزراعة في العالم أي أن أكثر من نصف الأراضي الصالحة للزراعة لا يتم استغلالها كليا وفي كل من أفريقيا وأمريكا اللاتينية لا يزرع إلا نحو 30% من أراضيها الصالحة للزراعة أي لا يتم استغلال أو زراعة أكثر من ثلثي الأراضي الصالحة للزراعة ناهيك عن سوء استخدام الموارد واتباع أساليب تقليدية في الزراعة مما يؤدي إلي انخفاض الإنتاجية للأرض وتدهور الموارد المتاحة وينعكس كل ذلك برمته علي الاحتياجات الغذائية لهذه الشعوب.
وأنا أظن أن رؤية الموضوع من هذه الزاوية فقط لا تكفي لاستجلاء كل أبعاده فالعقبات أمام تحرير هذه الطاقة الإنتاجية ليست في معظم الحالات فيزيائية "أي ترجع لطبيعة الأرض وكيفية استغلالها" بل ترجع معظم جوانبها إلي حالات اجتماعية وسياسية فحينما كانت هناك سيطرة غير عادلة وغير ديمقراطية علي الموارد الإنتاجية فإن تطورها يعاق سواء كان ذلك من خلال أفراد أو مؤسسات أو دول بعينها.
ففي معظم البلدان التي يجوع فيها الناس يسيطر كبار الملاك علي معظم الأرض حيث تظهر الدراسات أن نحو 5% فقط من كل ملاك الأرض 120 فدانا فأكثر يسيطرون علي نحو 80% من كل الأرض المزروعة لكن هؤلاء الكبار هم الأقل إنتاجية وتكشف الدراسات في بلدان متنوعة في العالم أن الملاك الكبار يجنون دائنا محصولا للفدان أقل من أصغر المزارعين يضاف إلي ذلك أن الإنتاجية المنخفضة تنتج من الظلم الاجتماعي الذي يعرقل تحسين الزراعة من جانب المزارعين الصغار والفقراء.. أيضا هناك دول وقوي بعينها تزيد من اتساع وتعمق أزمة الغذاء لاسيما الدول الغربية وعلي رأسها الولايات المتحدة الأمريكية والتي تستغل نفوذها العسكري وتنفرد بقراراتها وادعاءاتها المزيفة والباطلة لاحتلال دول معينة نعلم جميعا أهدافها من هذه الحرب ولا يخفي علينا نوايا الذين يقرعون طبول الحرب دائما لاستغلال موارد تلك الدول ونهب ثرواتها لصالح اقتصادها وأمنها القومي.
القصد لابد من إعادة النظر الدولية لهذه الأزمة الطاحنة والعمل علي زيادة التعاون سواء علي مستوي الأفراد أو الدول فالتعاون هو أهم العناصر في التنمية لحل المشكلات الغذائية والأمثلة علي ذلك كثيرة فمن أجل بناء وصيانة شبكات الري والصرف يجب ومن الضروري أن يعمل الجميع في القرية معا ليكونوا مؤثرين ونفس الشيء ينطبق علي كافة الأعمال الزراعية الأخري من بذور وحصاد ومقاومة آفات.. إلخ.
وعلي الجانب الدولي فيجب علي الدول الكبري "الغنية" التسلح بالرشد والعقلانية وبذل جهود مخلصة علي الجانب السياسي والاقتصادي لتجاوز تلك المجاعات والعمل علي زيادة الاستثمارات في هذه الدول والتركيز علي النهوض بقطاعاتها المختلفة خاصة القطاع الزراعي الذي يعد الركيزة الأولي والأساسية لأي نهضة تنموية.

وهناك سؤال آخر لا يقل أهمية عن سابقه بل يزيد وهو لماذا لا تستطيع الأمم التي تعاني من المجاعات الآن إطعام نفسها؟ وللإجابة عن هذا السؤال من غير المجدي مجرد وصف الظروف في بلد متخلف اليوم فهذه الظروف سواء أكانت درجة سوء التغذية أو مستويات الإنتاج الزراعي أو حتي السمات الأيكولوجية ليست حقائق ثابتة وليست معطيات بل هي بالأحري نتائج عملية تاريخية مستمرة ولابد من وجود آليات عملت علي خلق الندرة لتلك المجتمعات فهناك قلة ظلت تعمل علي مدي قرون طويلة للقضاء علي قدرة الغالبية علي إطعام نفسها ويأتي إلي ذهن الكثير منا أن هذا كان بمثابة مؤامرة ولكننا نتحدث عن شيء أشد تعقيدا وخبثا عن تراث من النظام الاستعماري سعي في ظله من يتمتعون بميزة سلطنة ملحوظة لتحقيق مصلحتهم الخاصة معتقدين دائما أنهم يعملون لصالح الناس الذين يدمرون حياتهم ورغم أن الزراعة في تلك المجتمعات لاقت عناية فائقة ومهارة ومعرفة بالدورات الزراعية ودقة المواعيد في البذر والحصاد إلا أن المستعمر سعي في تدميرها فالبنسبة لمستعمري أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية كانت الزراعة مجرد وسيلة لاستخلاص الثروة مثل الذهب من منجم لصالح القوة الاستعمارية ولم تعد الزراعة تعتبر مصدر غذاء للسكان المحليين ولا حتي قوام حياتهم فكانت المستعمرات عبارة عن مؤسسات زراعية هدفها الوحيد هو إمداد المجتمع الأكبر الذي تنتمي إليه والأمثلة علي هذا لا حصر لها فالاحتلال الإنجليزي للهند كان يقوم بإنتاج السكر والبن وبعض السلع الاستوائية الأخري لصالح بريطانيا.
والاستعمار الأوروبي لأفريقيا حول نظام الزراعة تماما في الدول المستعمرة وقام باستبعاد الأغذية الرئيسية فأجبرت غانا علي التركيز علي الكاكاو فقط بعدما كانت تشتهر بزراعة البطاطا وحولت ليبيريا إلي مجرد مزرعة تابعة لشركة الإطارات والمطاط وتم التخلي عن كل إنتاج الغذاء في داهومي ونيجيريا من أجل زيت النخيل فأجبرت تنزانيا علي التركيز علي السيزال الذي يصنع من أليافه الحبال وأوغندا علي القطن ولأن من يعيشون علي الأرض لا يتصرفون بسهولة ضد نزعتهم الطبيعية والتكيفية في زرع الغذاء لأنفسهم كان علي القوي الاستعمارية أن تفرض إنتاج المحاصيل النقدية وكانت الاستراتيجية الأولي هي استخدام القوة المادية أو الاقتصادية لإجبار السكان المحليين علي زرع محاصيل التصدير بدل الغذاء علي أراضيهم ثم تسليمها إلي المستعمر للتصدير عموما وكانت الاستراتيجية الثانية هي الاستيلاء المباشر علي الأرض بالمزارع الكبيرة التي تزرع المحاصيل للتصدير وفي النهاية استولي المستعمر علي أفضل الأراضي الزراعية لمزارع محاصيل التصدير ثم أجبر أقوي العمال علي ترك حقول قريتهم للعمل كعبيد أو بأجور ضئيلة جدا في المزارع وشجع الاعتماد علي الغذاء المستورد ومنع إنتاج الفلاحين المحليين من المحاصيل النقدية من التنافس مع المحاصيل النقدية التي ينتجها المستوطنون أو الشركات الأجنبية.

هذه أمثلة علي تنمية التخلف الذي وصلت إليه المجتمعات الجائعة والتي كان يجب أن ندركها علي هذا النحو حتي عندما نقرأ كتب التاريخ لا نفعل أي شيء علي الإطلاق.
لقد رأينا كيف خنق الاستعمار أو شوه الزراعة التقليدية لاستخلاص الثروة علي شكل محاصيل نقدية إن معرفتنا بالماضي أساسية لفهمنا للحاضر ويجب أن يكون تاريخ الفترة الاستعمارية معروفا لأي منا وأن يكون محصلته متوقعة من أي منا.
فقد تسببت أوروبا في تخلف أفريقيا وكانت المحاصيل النقدية تزرع عادة تحت تهديد البنادق والسياط ورغم استخدام القوة الغاشمة كانت الضرائب هي الوسيلة الاستعمارية المفضلة لإجبار الأفريقيين علي زراعة محاصيل التصدير فقد قامت الإدارة الاستعمارية بجباية الضرائب علي الماشية والأرض والبيوت وحتي علي البشر أنفسهم وحيث كان يجب دفع الضرائب بعملة المستعمر كان علي الفلاحين إما أن يزرعوا المحاصيل للبيع أو أن يعملوا في المزارع الكبيرة أو في مناجم الأوروبيين وبالتالي كان فرض الضرائب أداة فعالة في حفز المحاصيل النقدية.
في النهاية لن يكون هناك أمن غذائي حقيقي مهما بلغ الإنتاج ما دامت موارد إنتاج الغذاء يسيطر عليها أقلية ضئيلة وتستخدم فقط لإثرائها وهو ما يعرف اقتصاديا بالاحتكار لموارد الإنتاج ففي مثل هذا النظام سيتحقق الربح الأكبر دائما من تلبية مطالب أعمال أولئك الذين يمكنهم دفع أكبر ثمن وليس الجوعي.
يقول الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: "لو كان الفقر رجلا لقتلته".

الجمهورية -12/10/2010 بقلم: د.أسامة درويش