بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا، كما بدأ. فطوبى للغرباء


في حديث آخر "بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا، كما بدأ. فطوبى للغرباء " قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: "الذين يحيون سنتي، ويعلمونها الناس" (رواه البيهقي في الزهد من حديث كثير بن عبد الله بن عوف عن أبيه عن جده وهو ضعيف جدًا، رقم-207- كما رواه الترمذي برقم -2632-، وقال: حسن، وفي بعض النسخ حسن صحيح!! ولفظه: "فطوبى للغرباء، الذين يصلحون ما أفسد الناس بعدي من سنتي" وهذا مما أخذه عليه النقاد، ولعله حسنه أو صححه لكثرة شواهده).







فهؤلاء هم الغرباء الممدوحون المغبوطون، ولقلتهم في الناس جدًا: سموا "غرباء" فإن أكثر الناس على غير هذه الصفات، فأهل الإسلام في الناس غرباء، والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء وأهل السنة - الذين يميزونها من الأهواء والبدع - فيهم غرباء. والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين: هم أشد هؤلاء غربة. ولكن هؤلاء هم أهل الله حقًا، فلا غربة عليهم. وإنما غربتهم بين الأكثرين، والذين قال الله عز وجل فيهم: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) (الأنعام: 116)، فأولئك هم الغرباء من الله ورسوله ودينه. وغربتهم هي الغربة الموحشة. وإن كانوا هم المعروفين المشار إليهم. كما قيل:


من المؤسف أن كثيرًا من الأحاديث المتعلقة بـ "آخر الزمان" أو ما يسمى "أحاديث الفتن" و"أشراط الساعة" يفهمها بعض الناس فهمًا يوحي باليأس من كل عمل للإصلاح والتغيير.
ولا يتصور أن يدعو الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- الأمة إلى اليأس والقنوط، وترك الفساد يستشري في الناس، والمنكرات تنخر في عظام المجتمع، دون أن يصنع الناس شيئًا، يقوِّم ما اعوج، أو يصلح ما فسد، وكيف يتصور ذلك وهو -صلى الله عليه وسلم- يأمر بالعمل لعمارة الأرض، إلى أن تلفظ الحياة آخر أنفاسها، كما يتضح ذلك من الحديث الشريف: "إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تقوم - أي الساعة - حتى يغرسها، فليغرسها" (رواه أحمد في مسنده، والبخاري في الأدب المفرد عن أنس، وكذا الطيالسي والبزار، وقال الهيثمي: رواته ثقات أثبات).
ومعنى هذا أنه لن يأكل من ثمر هذا الغرس ولا أحد من بعده ما دامت الساعة قد قامت، أو توشك أن تقوم.
فإذا كان هذا مطلوبًا في أمر الدنيا، فأمر الدين أعظم وأجل، ولا بد من العمل من أجله إلى آخر رمق في هذه الحياة.
أما معنى كلمة "غريبًا" فالمتبادر أنها من "الغربة" لا من "الغرابة" بدليل آخر الحديث "فطوبى للغرباء" فالغرباء هنا جمع "غريب" والمراد به المتصف بالغربة لا الغرابة.
وإنما كانت غربتهم من غربة الإسلام الذي يؤمنون به ويدعون إليه، وهذا هو المعنى المفهوم من كلمة "غريب" في أكثر من حديث مثل "كن في الدنيا كأنك غريب" رواه البخاري.
فقد بدأ غريبًا، ولكنه لم يستمر غريبًا، لقد كان ضعيفًا ثم قوي، مستخفيًا ثم ظهر، محدودًا ثم انتشر، مضطهدًا ثم انتصر.
وسيعود غريبًا كما بدأ، ضعيفًا ليقوى ثم يقوى، مطاردًا ليظهر ثم يظهر على الدين كله، ملاحقًا مضطهدًا لينتشر وينتشر ثم ينتصر وينتصر.
فلا دلالة في الحديث على اليأس من المستقبل إن أحسنا فهمه.
ومما يدل على أن الحديث لا يعني الاستسلام أو اليأس، ولا يدعو إليه بحال، ما جاء في بعض الروايات من وصف لهؤلاء "الغرباء" من أنهم الذين يصلحون ما أفسد الناس من السنة، ويحيون ما أماته الناس منها.
فهم قوم إيجابيون بناؤون مصلحون، وليسوا من السلبيين أو الانعزاليين أو الاتكاليين، الذين يدعون الأقدار تجري في أعنتها، ولا يحركون ساكنًا، أو ينبهون غافلاً.
وهذه الغربة قد تكون في مكان دون مكان، ووقت دون وقت، وبين قوم دون قوم، ولكن أهل هذه "الغربة" هم أهل الله حقًا. فإنهم لم يأووا إلى غير الله. ولم ينتسبوا إلى غير رسوله -صلى الله عليه وسلم-. ولم يدعوا إلى غير ما جاء به. وهم الذين فارقوا الناس أحوج ما كانوا إليهم. فإذا انطلق الناس يوم القيامة مع آلهتهم بقوا في مكانهم. فيقال لهم: "ألا تنطلقون حيث انطلق الناس؟ فيقولون: فارقنا الناس، ونحن أحوج إليهم منا اليوم. وإنا ننتظر ربنا الذي كنا نعبده".
فهذه "الغربة" لا وحشة على صاحبها. بل هو آنس ما يكون إذا استوحش الناس. وأشد ما تكون وحشته إذا استأنسوا. فوليه الله ورسوله والذين آمنوا، وإن عاداه أكثر الناس وجفوه.


ومن صفات هؤلاء الغرباء - الذين غبطهم النبي صلى الله عليه وسلم-: التمسك بالسنة، إذا رغب عنها الناس، وترك ما أحدثوه، وإن كان هو المعروف عندهم، وتجريد التوحيد، وإن أنكر ذلك أكثر الناس، وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله، لا شيخ، ولا طريقة، ولا مذهب، ولا طائفة، بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية له وحده، وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده، وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقًا، وأكثر الناس - بل كلهم - لائم لهم - فلغربتهم بين هذا الخلق: يعدونهم أهل شذوذ وبدعة، ومفارقة للسواد الأعظم!.
ومعنى قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هم النزاع من القبائل" أن الله سبحانه بعث رسوله، وأهل الأرض على أديان مختلفة، فهم بين عباد أوثان ونيران، وعباد صور وصلبان، ويهود وصابئة وفلاسفة، وكان الإسلام في أول ظهوره غريبًا، وكان من أسلم منهم، واستجاب لله ولرسوله: غريبًا في حيه وقبيلته، وأهله وعشيرته.
فكان المستجيبون لدعوة الإسلام نزاعًا من القبائل، بل آحادًا منهم. تغربوا عن قبائلهم وعشائرهم، ودخلوا في الإسلام، فكانوا هم الغرباء حقًا حتى ظهر الإسلام، وانتشرت دعوته، ودخل الناس فيه أفواجًا. فزالت تلك الغربة عنهم، ثم أخذ في الاغتراب والترحل، حتى عاد غريبًا كما بدأ. بل الإسلام الحق - الذي كان عليه رسول الله وأصحابه - هو اليوم أشد غربة منه في أول ظهوره وإن كانت أعلامه ورسومه الظاهرة مشهورة معروفة. فالإسلام الحقيقي غريب جدًا، وأهله غرباء أشد الغربة بين الناس.


فهو غريب في دينه لفساد أديانهم، غريب في تمسكه بالسنة لتمسكهم بالبدع، غريب في اعتقاده لفساد عقائدهم، غريب في صلاته لسوء صلاتهم، غريب في طريقه لضلال وفساد طرقهم، غريب في نسبته لمخالفة نسبهم، غريب في معاشرته لهم لأنه يعاشرهم على ما لا تهوى أنفسهم.
وبالجملة: فهو غريب في أمور دنياه وآخرته، لا يجد من العامة مساعدًا ولا معينًا، فهو عالم بين جهال، صاحب سنة بين أهل بدع، داع إلى الله ورسوله بين دعاة إلى الأهواء والبدع، آمر بالمعروف، ناه عن المنكر، بين قوم المعروف لديهم منكر، والمنكر معروف) (مدارج السالكين شرح منازل السائرين لابن القيم 1/194-200، ط. السنة المحمدية).