تسمو أخلاق رسول الله سموا لا يدانيه سمو ، فكان بحقٍ إنسانا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ وظلال، فالله يصطفى لنبوته ورسالاته خير البشر، وأكملهم عقلا، وأقواهم نفسا، وأنورهم قلبا، وأقدرهم على تحمُل المسئولية؛ لأنهم - صلوات الله وسلامه عليهم جميعا - قدوة لبني البشر، ورسولنا كان المنارة التي يهتدي بها السائرون في ظلمات الجهل، فكانت أخلاقه قمة سامية، ومعاملاته نبعا صافيا.




وإن المتأمل في سيرة رسول الله يجدها نبعا سخيا، ومصدرا ثريا لكل أنواع العظمة الإنسانية، وكيف لا يكون كذلك وقد اصطفاه الله على بني آدم، وختم به أنبياءه ورسله، فكانت حياته أنصع حياة عرفتها الإنسانية منذ نشأتها، فاستحق رسول الله وصف الله تبارك وتعالى له بقوله : { وإنك لعلى خُلُقٍ عظيمٍ } [القلم: 4].




وكان كمال أخلاقه دليلا على نبوته ؛ لذلك آمن الكثير بنُبُوته بعد أن شاهدوا هذه الأخلاق بأعينهم، أو قرءوا عنها بعد وفاة رسول الله، وهي أخلاق عملية ظهرت في أروع صورها في كل باب من أبواب الأخلاق المعروفة.




عظمة أخلاق رسول الله




لقد كان رسول الله أُسوة حسنة، ومثالا يُحتذى به في كل شيء، فكانت أخلاقه مثالا للفرد والجماعة ، ودليلا أكيدا على نُبُوته؛ فقد استطاع بالمنهج الرباني الذي أُوحي إليه أن يبني أُمة من لا شيء، وأن يُقيم حضارة استحال على الزمان أن يجود بمثلها، هذه الحضارة بُنيتْ دعائمها على الأخلاق؛ لذلك قال : " إنما بُعثْتُ لأُتمم مكارم الأخْلاق "[1] .




ويكفى رسول الله محمد شرفا أن الله قد شهد له بعظمة الأخلاق فقال تعالى : { وإنك لعلى خُلُقٍ عظيمٍ } [القلم: 4]، وهذه الشهادة الكبرى من الله في حق نبيه دليل على أن أخلاقه كانت عظيمة منذ خلقه الله ؛ ولذلك اشتهر بين قومه بالصادق الأمين، ولم يجرؤ أحد منهم على وصفه بالكذب أو الخيانة، بل افتروا وسائل أخرى لصد الناس عنه؛ كالجنون والسحر .. وغير ذلك، ولم يكن وصف الله تعالى لنبيه محمد بعظمة الأخلاق وصفا لحاله فقط، بل إشارة منه إلى أن الأخلاق الحسنة مما لا تجامع الجنون أو السحر أو غير ذلك ممن افتروه على رسول الله ، وأنه كلما كان الإنسان أحسن خُلُقا كان أبعد ما يكون عن الجنون[2].




شواهد عظمة أخلاق النبي




ومن شواهد عظمة أخلاق رسول الله، أنه انبهر الكثيرون -أعداؤه قبل أصحابه - بأخلاقه، فكانت سببا في إسلام بعضهم، فلننظر إلى ملك عُمان المعاصر لرسول الله وهو الجُلنْدى [3]؛ الذي انبهر بأخلاقه، فقال : " والله لقد دلني على هذا النبي الأُمي أنه لا يأْمُرُ بخير إلا كان أول آخذ به، ولا ينْهى عن شيء إلا كان أول تارك له، وأنه يغْلب فلا يبطر، ويُغلب فلا يضجر، ويفي بالعهد وينجز الموعود، وأشهد أنه نبي "[4] .




تكافؤ وتكامل أخلاق رسول الله




ومن عظمة أخلاق رسول الله أنها متكاملة ومتكافئة ؛ بحيث لا يطغى جانب على جانب آخر من أخلاقه، فكان صبره مثل شجاعته، وأمانته مثل كرمه، وصدقه مثل حلمه .. وهكذا لا نجد له خُلُقا في موضعه من الحياة يزيد وينقص على خُلُق آخر في موضعه، وهذا التكافؤ الخُلُقي لم تعرفه الحياة الواقعية لإنسان غير محمد [5] ؛ لذلك قال الشاعر الألماني جوتة : " بحثتُ في التاريخ عن مثل أعلى لهذا الإنسان، فوجدته في النبي العربي محمد "[6].






عظمة أخلاق رسول الله




وكان القرآن الكريم هو المنبع الرئيسي الذي استمد منه رسول الله محمد أخلاقه ، فأضفى على كماله الخلقي كمالا، وعلى جميل أدبه جمالا، وذلك بتوجيهه لكل خير، وإرشاده لكل معروف، حتى أصبح كأنه قرآنا يمشي على الأرض في أفعاله وأقواله ؛ لذلك قالت أُمُ المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - عندما سألها سعد بن هشام بن عامر عن خُلُق رسول الله : ألست تقرأ القرآن؟ قلتُ: بلى. قالت: فإن خُلق نبي الله كان القرآن [7] . وفي رواية أخرى قالت عائشة - رضي الله عنها -: " كان خلق رسول الله القرآن . ثم قالت : تقرأ سورة المؤمنين اقرأ : { قدْ أفْلح الْمُؤْمنُون } [لمؤمنون: 1]. حتى بلغ العشر، فقالت : هكذا كان خلق رسول الله [8] . فما أدق وصف أُم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها - لأخلاق النبي.




كما كانت رؤية النبي محمد لطبيعة الإسلام رؤية مبنية على مكارم الأخلاق ، وهذا ما فهمه العرب منذ بداية دعوته إلى الإسلام، فعندما عرض محمد نفسه - مثلا - على وفد بني شيبان بن ثعلبة - وكان في القوم مفروق بن عمرو ، والمثنى بن حارثة ، وهانئ بن قبيصة، والنعمان بن شريك - فتلا عليهم رسول الله قول الله تعالى : { قُلْ تعالوْا أتْلُ ما حرم ربُكُمْ عليْكُمْ ألا تُشْركُوا به شيْئا وبالْوالديْن إحْسانا ولا تقْتُلُوا أوْلادكُمْ منْ إمْلاقٍ نحْنُ نرْزُقُكُمْ وإياهُمْ ولا تقْربُوا الْفواحش ما ظهر منْها وما بطن ولا تقْتُلُوا النفْس التي حرم اللهُ إلا بالْحق ذلكُمْ وصاكُمْ به لعلكُمْ تعْقلُون } [الأنعام: 151]. فقال مفروق : ما هذا من كلام أهل الأرض، ولو كان من كلامهم لعرفناه. فتلا رسول الله قوله : { إن الله يأْمُرُ بالْعدْل والإحْسان وإيتاء ذي الْقُرْبى وينْهى عن الْفحْشاء والْمُنْكر والْبغْي يعظُكُمْ لعلكُمْ تذكرُون } [النحل: 90]. فقال مفروق : دعوت والله يا قرشي إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأفعال، ولقد أُفك [9] قوم كذبوك وظاهروا عليك [10] .




ولقد ظهر تعظيمه للأخلاق في كثير من كلماته وأحاديثه، فها هو رسول الله محمد يقول معلما لأصحابه : " إن منْ أكْمل الْمُؤْمنين إيمانا أحْسنُهُمْ خُلُقا، وألْطفُهُمْ بأهْله " [11] .




ولم تكن هذه الأخلاق مقصورة على قوم دون آخرين أو طائفة دون طائفة، بل ظهرت واضحة جلية في كل تعاملاته ؛ فقد كان كثير المخالطة لأصحابه، لم يعتزل عنهم أبدا، كان يُجالس الفقراء، ويرحم المساكين، وتسير به الأمة في شوارع المدينة أينما شاءت، وكان يعود المرضى، ويشهد الجنائز، ويزور أصحابه في بيوتهم، ويزورونه في بيته، وهو في كل ذلك دائم الابتسامة، منبسط الأسارير، متهلل الوجه، وكان رحيما بأُمته تمام الرحمة، ما خُير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس عنه، وكان كثير العفو حتى عمن ظلمه وبالغ في ظلمه.




أخلاق الرسول مع أعدائه




كما كانت أخلاق رسول الله عظمة في بيته، وفي تعامله مع غير المسلمين في مجتمعه، بل وتميز أيضا بمعامله أعدائه ومبغضيه بكل رفق وأناة، وقد شهد بحسن خلقه أبو سفيان بن حرب قبل أن يُسلم وهو زعيم المشركين، فقال عند إسلامه : " والله إنك لكريم، ولقد حاربتك فنعم محاربي كنت، ثم سالمتك فنعم المسالم أنت، فجزاك الله خيرا " [12].




شهادة وليم موير




عظمة أخلاق رسول الله




وبعدُ، فإننا لن نستطيع أن نستقصي أخلاق الرسول في صفحات قليلة، فقد كانت أخلاق رسول الله محط إعجاب كثير من المسلمين وغير المسلمين، فها هو ذا المستشرق البريطاني وليم موير [13] (1819-1905م)، يصف حياة رسول الله قائلا :


" كانت السهولة صورة من حياته كلها، وكان الذوق والأدب من أظهر صفاته في معاملته لأقل تابعيه، فالتواضع، والشفقة، والصبر، والإيثار، والجُود صفات ملازمة لشخصه، وجالبة لمحبة جميع منْ حوله، فلم يُعرف عنه أنه رفض دعوة أقل الناس شأنا، ولا هدية مهما صغرت، وما كان يتعالى ويبرز في مجلسه، ولا شعر أحد عنده أنه لا يختصُه بإقبال وإن كان حقيرا، وكان إذا لقي منْ يفرح بنجاحٍ أصابه أمسك يده وشاركه سروره، وكان مع المصاب والحزين شريكا شديد العطف، حسن المواساة، وكان في أوقات العسر يقتسم قُوتهُ مع الناس، وهو دائم الاشتغال والتفكير في راحة منْ حوله وهناءتهم" [14].




هذا هو رسولنا الذي نفخر به، وتفخر معنا البشرية كلها؛ فقد كان حقا خُلُقه القرآن .




د. راغب السرجاني