بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله ..
الحياة التي تنبض في جسدك إبتلاء، والموت الذي سيطويك هو إبتلاء:
(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)(الملك: من الآية2)،
تفصيلات الحياة؛ أنفاسها، تحوّلاتها، وجوهها، أدواتها.
الإبتلاء هنا جماعي يدعو إلى السباق والتنافس الشريف ..
مسؤولية الفرد ليست ملغاة أو مصادرة، فهو موضع الابتلاء:
(فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ *
وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * )(الفجر: 19-21).
الإكرام والنعمة ابتلاء، والفقر والتضييق ابتلاء،
ومعايير الناس ليست رشيدة دائماً؛ إذ يَعُدُّون الرزق علامة الرضا،
والحرمان علامة الغضب والإهانة! تأمَّل نفسك، وتأمَّل الناس من حولك..
تجد جلّهم هكذا ينظرون ويُفكِّرون، حين لا يتحقق لهم ما يريدون
يحسبون الأمر عقاباً أو سخطاً،
ويندر أن تجد المُنَعَّمين والموسَّع عليهم يُداخلهم خوف
أو تردد أن يكون العطاء عقوبة!!
ثانياً: التعامل الإيجابي مع الابتلاء هو سر النجاح؛
أن تتعامل مع الممكن وليس مع المستحيل،
ومن الناس من يقضي عمره في تمني المحال بدل أن يمضيه
في فعل المستطاع!
الصبر على ما تكره في الوجود هو الدرجة الأولى « وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ »،
والرضا درجةٌ أتمُّ وأسمى.
فعلقم الدهر إن أرضاك كالعذب والدرجة العليا هي الشكر،
وهي من أعلى المنازل
وهي فوق منزلة الرضا وزيادة، فالرضا مندرج في الشكر إذ يستحيل
وجود الشكر بدونه،
وهو نصف الإيمان؛ فالإيمان نصفان: «نصف شكر، ونصف صبر».
الصبر الجميل يتطور بالمحاولة إلى رضا، والرضا يرتقي إلى مقام الشكر.
أو على من حولنا. إدمان التذمر عادة مدمرة لنفسية الفتى أو الفتاة،
وكثرة التضجُّر والشكوى واستجلاب الشفقة هي سلبية لا تليق
بالمخلوق المزوَّد بأدوات المقاومة والتكيُّف،
والممكَّن من اختطاط سبيل الإيمان والتوكُّل.
ثالثاً: اللسان يشترك مع الإنسان في معظم حروفه في لغة العرب،
التي ينطق بها في حياته، حتى الأبكم لديه كلمات إيجابية أو سلبية،
ولكنه لا يستطيع البوح بها،
وهي تعبِّر عن شخصيته، ومزاجه، وحالته النفسية.
كل المشاريع والأفكار الإبداعية العظيمة كانت قبل أن ترى النور
كلمات يتحادث حولها أصحابها،
ويُقدِّمون الدراسات، ولذا قال: علي بن أبي طالب وأيضاً
سقراط: «تحدَّث حتى أراك»!
قصة الرقيب والعتيد وهما وصفان للملكين الموكلين بالإنسان
مدعاة للتأمل، فهما يكتبان الأقوال،
ومعنى ذلك أنهما قريبان من منطقة الفم؛ لرصد الحروف والكلمات
التي يتفوَّه بها،
ولا يحاسب عليها الإنسان ما دامت مجرد فكرة عابرة. أولئك الذين
يشتغلون دوماً بندب حظهم العاثر،
وشخصياتهم المحطَّمة، وفشلهم الأزلي.. هم يبنون الأسوار بعد
الأسوار التي تجعل خلاصهم أمراً في غاية العسر
ما لم يَكُفُّوا عن هجاء القدر بلغتهم السوداوية!
تسألني ابنتي: وهل تريد منَّا أن نُمثِّل فنقول خلاف الواقع؟
نعم؛ قولي خلاف الواقع الذي اعتدت على رؤيته، والتفتي إلى واقع آخر
إلى جانبه، أو على الفلسفة العمرية الرائعة؛
«فرِّي مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ»، أو التفتي إلى أمل قريب
يوشك أن يكون واقعاً لو أردت، والقرآن ربط الخير والشر،
والإيمان والإلحاد، وسائر أفعال الإنسان بـ«الإرادة».
إقرأي الوجه المشرق حتى في المنع، والحرمان،
والمرض، والأذى، والمصائب.. هذا الذي تسمينه "تمثيلاً"
سيُصبح مع التدريب والمداومة عادة حسنة،
وما تقولينه سوف تسمعه أذنك، ويخزنه عقلك الباطن،
ويعيد إملاءه عليك! حتى في المزاح علينا أن نتوقَّى الألفاظ السلبية،
فالمريض الذي يتندَّر أن المرض يغادره ليُفسح الطريق لعِلَّة أشد وأقسى.
والطالب الذي يقول أنه مثل "سائق الباص" ينزل الركاب، ويأتي آخرون،
وهو في مكانه لا يبرح ولا يريم!
والبنت التي تقول أنها ترى أحلاماً لبنات فتُفسَّر بزواجهن،
فتقول: مهمتي الحلم، ومهمتكن الزواج!
وصاحب الدعابة الذي يتندَّر على والده، أو على كبار السن بالموت،
وأنكم على شفير القبر..
عليه أن يَكُفَّ عن هذا المزاح، فهو قول سلبي، ولديه (رَقِيبٌ عَتِيدٌ)،
وإياك أن تظن أن ضحك من حولك يعني تسويغاً تاماً
لما تقول، قد تعجبهم النكتة، وفي داخلهم ضيق لا يكاد يبين،
ستدركه إن كنت من ذوي الفراسة المُتَوَسِّمِين.
رابعاً: الابتلاء إذاً يكون بالخير وبالشر؛ (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)
(الأنبياء: من الآية35).
والمقصود منه: ظهور علم الله في العبد، فينتقل من علم الغيب
إلى علم الشهادة، ويراه الناس عياناً،
ويتحدثون به، ولذا كان عمر -رضي الله عنه- يقول: «الغِنَى والفقر مطيَّتان، والله ما أُبالي أيُّهما ركبت!».
وعَنْ نَافِعِ بْنِ عَبْدِ الْحَارِثِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
« مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ الْجَارُ الصَّالِحُ، وَالْمَرْكَبُ الْهَنِيءُ، وَالْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ ».
أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" والحاكم وصححه.
إِذا حَشرَجَت نَفسٌ وَضاقَ بِها الصَدرُ ...مكث أَيُّوب عشرين سنه طريح فراشه،
فقال الله لنا: (وَجَدْنَاهُ صَابِراً)(صّ: من الآية44)، وصرنا نقول: «صَبْر أَيُّوب».
سنين طوال وهذي الجراح تمزّق جنبي مثل المدى ولا يهدأ الداء عند الصباح ولا يمسح اللّيل أوجاعه بالردى
ولكنَّ أيوب إن صاح صاح لك الحمد يا رامياً بالقدر ويا كاتباً، بعد ذاك، الشّفاء!
مرض جسمٌ فتعافت روح، وأشرقت بنور ربها..
منطرحاً أمام بابك الكبير أصرخ في الظلام أستجير يا راعي النمال في الرمال و سامع الحصاة في قرارة الغدير!
قيمة الإنسان الحقَّة هي في ذاته ومعدنه، وليست في الأشياء، فالأشياء تذهب وتجئ،
وتُمنح وتُمنع، والكرسي دوَّار..
(يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) (النور:44).
منقول ..