بحسب المسلم أن ينظر إلى نفسه على أنّه خليفة لله في الأرض، مهمته أن ينفذ أمره، ويقيم حدوده ويعلى كلمته، ويقوم بواجب العبودية له تعالى، بحسبه ذلك لتصطبغ أعماله كلها بصبغة ربانية، وليكون ما يصدر عنه من أقوال وأفعال وحركات وسكنات عبادة لله رب العالمين.
وهذا هو الموافق لما تعطيه الآية الكريمة من معنى كبير: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات/ 56)، فأين هي العبادة التي جعلها الله غاية لخلقهم إذا حصرنا معنى العبادة في تلك الشعائر التي لا تستغرق إلا دقائق معدودات من يوم الإنسان وليلته. أما جل الوقت ففي معترك الحياة، ويعجبني ما قاله هنا الأستاذ محمد الغزالي:
"إنّ الإسلام ليس أفعالاً تعد على الأصابع دون زيادة أو نقص. كلا.. إنه صلاحية الإنسان للمسير في الحياة وهو يؤدي رسالة محددة.
فالمهندس الذي يصنع آلة ما لا يعنيه كم تنتج من السلع والأدوات، وإنما يعنيه أن تكون أجهزتها مستعدة على الدوام لإنجاز ما تكلف به.
فصلاحية الطيارة للإنطلاق. وصلاحية المدفع للقذف. وصلاحية القلم للكتابة... هذه الصلاحيات هي مناط الحكم على قيمة الشيء فإذا أطمأننا إلى وجودها قبلناها ورجونا ثمرتها.
كذلك الإنسان، إنّ الإسلام يريد أن تستقيم أجهزته النفسية أوّلاً. فإذا توفرت لها صلاحيتها المنشودة، بصدق اليقين، وسلامة الوجهة، فكل عمل تتعرض له في الحياة يتحول من تلقاء نفسه إلى طاعة الله. إن آلة سك النقود يدخلها المعدن الغفل – الخام – فيخرج منها عملة مالية غالية الثمن، تحمل من الألوان والأختام والشارات ما يجعلها شيئاً آخر. كذلك المسلم يعالج ما يعالج من شؤون الدنيا، فيضفى عليه من طبيعة إيمانه وسناء وجهته ما يجعل أي عمل يقبل عليه يتحول في يده إلى عبادة غالية القدر.
وبهذه الصلاحية النفسية رفض الله دعوى أصحاب الدعاوى الذين اغتروا (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة/ 111-112).
في شؤون الحياة ليس للأعمال الصالحة حصر تنتهى عنده ولا رسم تخرج فيه. إنما هو إسلام الوجه لله وإصلاح العمل والبلوغ به حد الكمال المطلوب".






-آثار هذا الشمول في النفس والحياة:

إنّ شمول معنى العبادة في الإسلام – كما شرحناه – له آثار مباركة في النفس والحياة يحسها الإنسان في ذاته. ويلمسها في غيره. ويرى ظلالها في الحياة من حوله. وأبرز هذه الآثار وأعمقها أمران:
الأوّل: أنّه يصبغ حياة المسلم وأعماله فيها بالصبغة الربانية، ويجعله مشدوداً إلى الله في كل ما يؤديه للحياة، فهو يقوم به بنية العابد الخاشع. وروح القانت المخبت، وهذا يدفعه إلى الاستكثار من كل عمل نافع. وكل إنتاج صالح، وكل ما ييسر له ولأبناء نوعه الانتفاع بالحياة، على أمثل وجوهها. فإن ذلك يزيد رصيده من الحسنات والقربات عند الله عزّ وجلّ. كما يدعوه هذا المعنى إلى إحسان عمله الدنيوي وتجويده وإتقانه، مادام يقدمه هدية إلى ربه سبحانه، ابتغاء رضوانه وحسن مثوبته.
والثاني: أنّه يمنح المسلم وحدة الوجهة، ووحدة الغاية في حياته كلها، فهو يرضى رباً واحداً، في كل ما يأتى ويدع، ويتجه إلى هذا الرب بسعيه كله: الديني والدنيوي، لا انقسام ولا صراع ولا إزدواج في شخصيته ولا في حياته.
إنّه ليس ممن يعبدون الله في الليل، ويعبدون "المجتمع" في النهار.
وليس ممن يعبدون الله في المسجد، ويعبدون "الدنيا" أو "المال" في ساحة الحياة.
وليس ممن يعبدون الله في يوم من أيام الأسبوع ثمّ يعبدون ما سواه ومن سواه سائر أيام الأسبوع.
كلا.. إنّه يعبد الله وحده حيثما كان، وكيفما كان، وفي أي عمل كان.. فوجه الله لا يفارقه في عمل ولا حال ولا زمان (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) (البقرة/ 115).
وبهذا ينصرف همه كله إلى الله، ويجتمع قلبه كله على الله، ولا يتوزع شمل حياته وفكره وإرادته ووجدانه بين شتى الإتجاهات، والتيارات والإنقسامات.
إنّ حياته كلها وحدة لا تتجزأ. منهجه فيها عبادة الله، وغايته رضوان الله. ودليله وحي الله. يقول المسلم النمساوي الأستاذ محمد أسد في بيان ميزة العبادة في الإسلام:
"يختلف إدراك العبادة في الإسلام عما هو في كل دين آخر. إنّ العبادة في الإسلام ليست محصورة في أعمال من الخشوع الخالص، كالصلاة والصيام مثلاً، ولكنها تتناول "كل" حياة الإنسان العملية أيضاً. ولذا كانت الغاية من حياتنا على العموم "عبادة الله" فيلزمنا حينئذ – ضرورة – أن ننظر إلى هذه الحياة في مجموع مظاهرها كلها على أنها تبعة أدبية، متعددة النواحي. وهكذا يجب أن نأتى أعمالنا كلها – حتى تلك التي تظهر تافهة – على أنها عبادات، وأن نأتيها بوعي، وعلى أنها تؤلف جزءاً من ذلك المنهاج العالمي الذي أبدعه الله.. تلك. حال ينظر إليها الرجل العادي على أنها مثل أعلى بعيد. ولكن أليس من مقاصد هذا الدين أن تتحقق المثل العليا في الوجود الواقع..؟؟
إنّ موقف الإسلام في هذا الصدد لا يحتمل التأويل. إنّه يعلمنا أوّلاً: أن عبادة الله الدائمة، والمتمثلة في أعمال الحياة الإنسانية المتعددة جميعها، هي معنى الحياة نفسها، ويعلمنا ثانياً: أن بلوغ هذا المقصد يظل مستحيلاً ما دمنا نقسم حياتنا قسمين إثنين: حياتنا الروحية. وحياتنا المادية.. يجب أن تقترن هاتان الحياتان في وعينا وفي أعمالنا لتكوّن (كلاً) واحداً متسقاً.. إن فكرتنا عن وحدانية الله يجب أن تتجلى في سعينا للتوفيق والتوحيد بين المظاهر المختلفة في حياتنا.
هناك نتيجة منطقية لهذا الاتجاه. هي فرق آخر بين الإسلام وسائر النظم الدينية المعروفة. ذلك أنّ الإسلام – على أنّه تعليم – لا يكفى بأن يأخذ على عاتقه تحديد الصلاة المتعلقة بما وراء الطبيعة فيما بين المرء وخالقه فقط. ولكن يعرض أيضاً – بمثل هذا التوكيد على الأقل – للصلات الدنيوية بين الفرد وبيئته الاجتماعية..
إنّ الحياة الدنيا لا ينظر إليها على أنها صدقة عادية فارغة، ولا على أنها طيف خيال للآخرة، التي هي آتية لا ريب فيها، من غير أن تكون منطوية على معنى ما. ولكن على أنها وحدة إيجابية تامة في نفسها. والله تعالى "وحدة" لا في جوهره فحسب، بل في الغاية إليه أيضاً. من أجل ذلك كان خلقه وحدة، ربما في جوهره، إلا أنه وحدة في الغاية منه بكل تأكيد.
وعبادة الله في أوسع معانيها – كما شرحنا آنفاً – تؤلف في الإسلام معنى الحياة الإنسانية.. هذا الإدراك وحده يرينا إمكان بلوغ الإنسان الكمال – في إطار حياته الدنيوية الفردية – ومن بين سائر النظم الدينية نرى الإسلام – وحده – يعلن أنّ الكمال الفردي ممكن في الحياة الدنيا.. إنّ الإسلام لا يؤجل هذا الكمال إلى ما بعد إماتة الشهوات "الجسدية"، ولا هو يعدنا بسلسلة متلاحقة الحلقات من "تناسخ الأرواح" على مراتب متدرجة – كما هي الحال في الهندوكية – ولا هو يوافق البوذية التي تقول بأنّ الكمال والنجاة لا يتمان إلا بعد إنعدام النفس الجزئية وإنقسام علاقاتها الشعورية من العالم.. كلا. إنّ الإسلام يؤكد في إعلانه أنّ الإنسان يستطيع بلوغ الكمال في حياته الدنيا الفردية. وذلك بأن يستفيد إستفادة تامة من وجوه الإمكان الدنيوي في حياته هو"