السيدة رابعة العدوية - رضي الله عنها توطئة: لقد اشتهرت "رابعة العدوية" في التاريخ بما قدمته من زهد وورع ومعرفة لربها، وقد كان لمجاهدتها نفسها أثر عظيم في حقل الدعوة إلى الله بالقدوة والعمل الصالح، حيث أدلت بدلوها في نهر الدعوة الجاري، الذي روى ظمأ القلوب المحبة لطاعة ربها، وقد علمت من قصدها بسلوكها الإيمان واليقين وأن الأمور مرجعها إلى الله وحده. السيدة رابعة العدوية.. المولد والنشأة: هي "رابعة العدوية" البصرية بنت إسماعيل مولاة آل عتيك من بني عدوة، وولدت بالبصرة وعاشت زمنًا طويلاً. وقد نشأت بين أبوين فقيرين صالحين بالبصرة وجاءت بعد ثلاث بنات فسماها "رابعة". وروى أبوها أنه رأى في المنام النبي - صلى الله عليه وسلم – يقول له: "لا تحزن فهذه الوليدة سيدة جليلة" ثم جاء من بعدها الرزق الوافر وما لبث أن مات هذا الأب الصالح ثم لحقت به زوجته دون أن يتركا من أسباب العيش سوى قارب ينقل الناس بدراهم معدودة، وخرجت لتعمل مكان أبيها ثم تعود بعد عناء تهون عن نفسها بالغناء وقد كان للعراق في هذا الوقت شهرة في العلم والأدب والزهد والدين واللهو والترف والغناء. السيدة رابعة العدوية والرؤيا الصالحة: رأت "رابعة" في نومها رؤيا، وتكررت لتشهد فيها نورًا ساطعًا يحيط بها فسبحت فيه، وسمعت مناديًا يطلب منها ترك اللهو والغناء والانشغال بالتفرغ بالتضرع والمناجاة، واستبدال الألحان بالقرآن، وانقطعت عن الغناء لكنها استبدلت أشعار اللهو والمجون بأشعار الزهد والصلاح ثم أقبلت على عبادة ربها. السيدة رابعة العدوية وبداية الطريق: لقد كان لصلاح النشأة أثر في نفس هذه الفتاة التي رأت في والديها الزهد وكثرة التهجد والعبادة وطول التفكير والتأمل، وهي الفتاة اللبيبة الذكية المنطوية قليلة الكلام التي تحلت بالصبر على ألم الحرمان وقد سألها أبوها يومًا: "أرأيت إن لم نجد يا "رابعة" إلا حرامًا؟؟" فأجابت: "نصبر يا أبي في الدنيا على الجوع خير من أن نصبر في الآخرة على النار" وهذه الإجابة في مستهل عمرها تنم عن قلب صادق. وبدأت "رابعة" بحفظ القرآن والعبادة والتهجد في هدأة الليل وقد حدثت مجاعة وقحط وجفاف فتشردت "رابعة" وأخواتها ولم تلتق بواحدة منهن، وزاد البلاء بأن أخذها لص وباعها في سوق العبيد، وأذاقها التاجر سوء العذاب، ولكنها صبرت وزاد تعلقها بربها وخلوتها ومناجاتها، ولم تكسل أو تفتر لها عزيمة أو تتغير متعللة بسوء الظروف والأحوال، لأن المؤمن الصادق لا يتغير في معاملته مع ربه بل يظل على العهد والمجاهدة وقد تعرض لها ذئب بشري يومًا فدافعت عن كرامتها وعفتها حتى كسر ذراعها. وذهبت تسجد لله شكرًا أن نجاها وتدعوه أن يؤنس وحدتها فلم تشعر بعدها بوحدة وهي وحيدة فريدة بلا أهل، واستغنت بربها عن كل شيء، وكيف تستوحش وقد جعلت ربها أنيسًا وجليسًا ومحبوبًا وغاية؟. وذات يوم رآها سيدها واسترق السمع وهي تدعو أن يخلصها من هذا الرق ورأى حولها نورًا من عمق صلتها بربها فرق قلبه وأعتقها، وتحررت لكن جعلت همها هو هم الآخرة. واعتزلت الخلق، وبنت لنفسها مصلى منفردًا، وانقطعت فيه للعبادة، وقصدت المساجد لسماع العلم. وهكذا تحررت وانطلقت في رحاب العبادة عابدة صالحة لا تبالي على أي حال من الدنيا أمست وأصبحت ولا تحفل بالدنيا الفانية. السيدة رابعة العدوية، وعلمها الرباني: لقد اجتمع العلم الرباني الوهبي الذي لا يوجد في الكتب ولا يسمعه الناس من الوعاظ، ولا يجدونه على ألسنة الكثيرين، وهو علم يهبه الله تعالى، لأهل التقوى واليقين حيث ينبع من قلوبهم وتنطق به ألسنتهم، ولذلك جاء في الحديث: "العلم علمان: علم في القلب وذلك العلم النافع، وعلم على اللسان وذلك حجة الله على ابن آدم" [رواه الحافظ أبو بكر وابن عبد البر عن جابر – رضي الله عنه -]. ولقد عنيت "رابعة" منذ صغرها بحفظ القرآن الكريم وترتيله وتجويده، وترددت على المساجد لتسمع العلم على شيوخه وتشهد مجالس الذكر. وقد وقى "رابعة" علمها وفقهها من الوقوع في حبائل الشيطان، وحفظ الله قلبها وهذا هو حال العاملين الصادقين في إيمانهم ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ (فاطر: من الآية 28)، وازدادت بذلك تواضعًا لله وقد أثر عن "رابعة" من شعرها الكثير في الزهد والشوق إلى الله ومنه هذه الأبيات. وزادي قليل ما أراه مبـلغي أللزاد أبكي؟ أم لطول مسافتي؟ أتحرقني بالنار يا غاية المنى فأين رجائي فيك؟ أين مخافتي؟. ومن أقوالها حينما كان يغلبها النوم تقول: "يا نفس كم تنامين؟ وإلى كم تقومين؟ يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلا لصرخة يوم النشور"**!! وهذا يدل على قوة الرجاء وطلب الرحمة. وقد أثر عن "رابعة العدوية" نثرًا وشعرًا ونصائح ومواعظ تعطي الدليل على سعة علمها وعمق فقهها. فمن كلامها: "محب الله لا يسكن أنينه وحنينه حتى يسكن مع محبوبه"، ومن أقوالها حين يجن الليل ويرخي ستوره: "إلهي هدأت الأصوات وسكنت الحركات، وخلا كل حبيب بحبيبه، وقد خلوت بك أيها المحبوب، فاجعل خلوتي منك في هذه الليلة عتقي من النار"، وفي هذه الخلوة يكون الود والحب من الله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾ (مريم: الآية 96). ومن وصاياها: "اكتموا حسناتكم كما تكتمون سيائتكم" وهذا هو شأن المخلصين فقد استغنوا بنظر الله إليهم عن نظر العباد، ومن تصنع لغير الله فضحه، ومن عمل لغير الله تركه وشركه. وكان للسيدة "رابعة" الكثير من الحكم الموجزة البليغة، ومن وصف ابن الجوزي لها: "كانت "رابعة" فطنة، ومن كلامها الدال على قوة فهمها قولها: "أستغفر الله من قلة صدقي في قولي أستغفر الله". وكان سفيان الثوري يأخذ بيد جعفر بن سليمان قائلاً له: مر بنا إلى المؤدبة التي لا أجد من أستريح إليه إذا فارقتها"، وقد ردت على من نظر إلى ثوبها الرث وأشار عليها بمن يعينها على تحسين حالتها قائلة: "ألست على الإسلام فهو العز الذي لا ذل معه والغنى الذي لا فقر معه، والأنس الذي لا وحشة معه، والله إني لأستحي أن أسأل الدنيا من يملكها؟ فكيف أسالها من لا يملكها؟ فما أبلغ هذا الكلام الذي قال عنه سفيان ما سمعت مثل هذا الكلام. بل إن سيرتها وسلوكها وكلامها يدل على سلامة القلب وتعلقه بالله وهذا ما يميز الخواص من عباد الله. السيدة رابعة العدوية.. الأوابة البكاءة: إن خشية الله والخوف منه يدفع القلب إلى الرجوع والأوبة إلى الله وإذا رق القلب تأثر بالذكر ومال إلى البكاء، وهكذا كان قلب "رابعة" المتضرع البكاء المنادي خالقه ليصل لدرجة القلب وطهارة النفس مما هيأها لاستقبال أنوار الحق، ولا يكون هذا إلا مع قوة الإيمان فإذا مرت بآية فيها ذكر النار سقطت مغشيًا عليها من الخوف، وإذا مرت بآية فيها تشويق إلى الجنة ركنت إليها، وكان تصلي الليل كله وتأنس في خلوتها بالله وتجد في ذلك لذة لا يجدها الملوك وكانت تضع كفنها أمام عينيها حتى لا تنسى الموت، وتلوم نفسها إذا تكاسلت قائلة: " يا نفس إلى كم تنامين، يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلا لصرخة يوم النشور". وذكرها للموت يحرك نفسها إلى الأخذ بزاد الأهبة والاستعداد ليوم الحساب، ولا نجاة هناك إلا لمن خاف الله واتقاه. وكانت "رابعة" متواضعة منكسرة لله، لاتزهو ولا يأخذها العجب وقد وقاها إيمانها وإخلاصها الوقوع في شباك الشيطان أو الترفع على العباد بقربها من الله. وكان من سمات "رابعة" – رضي الله عنها – أنها لا تتعجل الانصراف من وقوفها بين يدي الله، بل تحب طول المقام لما يحيط بها من نفحات وفيوضات ورحمات وطمأنينة ﴿أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ... ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (يونس: من الآيات 62-64). وهذا ما ينبغي أن يكون عليه الدعاة والداعيات إلى الله من حسن صلة وقرب من الله حتى يكون الزاد والمعين على مواصلة الطريق والتأثير في الآخرين. السيدة رابعة العدوية: المتواضعة الزاهدة: لقد بلغت "رابعة" من التواضع والزهد درجة لا يبلغها إلا الصالحون، وأصبحت نموذجًا يحتذى به في التطلع إلى ما عند الله من الكرامة والنعيم في جنة الخلد المقيم، فكانت تصوم معظم الأيام وأصبحت تبعث في القلوب الهمة العالية والنشاط، وهل بعد ذلك من مكانة وتأثير بالقدوة والعمل الصالح. ومن سمات "رابعة العدوية" أنه لم يصبها الغرور بعبادتها وأنها من أفضل الخلق رتبة عندالله لأن هذا من تلبيس إبليس ولا ينخدع به إلا مطموس البصيرة. فقد تجملت بالتواضع الشديد، وكانت في عين نفسها أقل العباد وهذا سمت الصالحين الذين يحاسبون أنفسهم على الصغيرة والهفوة وكانت "رابعة" رائعة الجمال فاتنة ورغم ذلك لم تتزوج ليس إعراضًا ولكن لانشغالها بحلاوة العبادة والقرب من الله، ومخافة أن تقصر في حق زوجها. ومن تواضعها أن جاءها رجل يومًا يطلب منها الدعاء فقالت: من أنا يرحمك الله؟ أطع ربك وادعه فإنه يجيب دعوة المضطر، وكانت تبكي في سجودها حتى يبتل موضع رأسها، ودنياها وما فيها أهون عليها من جناح بعوضة؛ فحينما عرض عليها الزواج من صاحب غنى وجاه واسع يتفاخر به بنات جنسها فكتبت له: "أما بعد فإن الزهد في الدنيا راحة القلب والبدن، وإن الرغبة فيها تورث الهم والحزن.. فما يسرني أن الله خولني أضعاف ما خولك فيشغلني بك عنه طرفة عين والسلام". فالمال عندها ليس مدعاة للفرح بل يستوي عندها والتراب وهي بزهدها ترد عباد الدنيا إلى صوابهم حتى يكون مقياس الفلاح والنجاح هو الإيمان، ونفهم من هذا ألا تكون الرغبة في الزواج ناشئة عن الشهوة وحب المال والزينة ولكن أن يكون الزواج عونًا على طاعة الله. وكانت "رابعة" تحظى بحب من حولها، ذكر "ابن خلكان" عن بعض من أحبوها قوله: كنت أدعو "لرابعة العدوية"، فرأيتها في المنام تقول: هداياك تأتينا على أطباق من نور مخمرة بمناديل من نور، وكثير ما رأت في منامها ما يبشرها بالخير، روي أنها ناجت ربها فقالت: "يا إلهي تحرق بالنار قلبًا يحبك؟ فهتف بها هاتف: ما كنا نفعل هذا، فلا تظني بنا ظن السوء". وما أكثر زهد "رابعة" في حب الثناء والمديح من الناس مخافة مداخل الشيطان والرياء والسمعة والتصنع للخلق، وقليل من العباد من يفطن لهذا أو قد تصبح أعمالهم هباءً منثورًا، فهل من زهد أو تواضع يتعلمه أهل الإيمان والصلاح والدعاة إلى الله مثل هذا؟. السيدة رابعة العدوية.. وموعد الرحيل: خرجت "رابعة" من الحياة بعد أن بلغت الثمانين من عمرها، وقد ذاقت ما ذاقت من البلاء، لكنها تمتعت بالأنس بالله والفرح بطاعته، وكانت ترى أنه لا راحة للمؤمن إلا بعد الموت على الإيمان الذي لم يفارقها ذكره، وقد كفنت في جبة من شعر كانت تقوم فيها إذا هدأت العيون، وقد رأتها خادمتها في المنام وعليها حلة من إستبرق وخمار من سندس أخضر لم ير أجمل منه. وكانت وفاتها سنة ثمانين ومائة وقيل خمس وثمانين ومائة ودفنت بالقدس وقبرها على رأس جبل الطور وقد كرمها الله بهذه الذكرى الطيبة التي تحيي في القلوب الفاترة الغافلة الهمة واليقظة. وها نحن نرى في سيرتها الإخلاص والعلم والزهد والتهجد والاستغفار والخشية من الله والبكاء والرجاء في عفوه والتواضع وهي أهون في عين نفسها من نعم الله عليها، رحمها الله رحمة واسعة، وجعلها لنا مثلاً نقتدي به، وأكثر من أمثالها في أمتنا. آمين...