الحمد لله العلي العظيم؛ مالك الملك، وخالق الخلق، ومدبر الأمر، حي لا يموت، وقيوم لا ينام، متصرف في القلوب، عليم بذات الصدور، يقول للشيء كن فيكون، نحمده حمدا يليق به؛ فله الكمال المطلق في أسمائه وصفاته، وله الحكمة الباهرة في أفعاله وأحكامه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ جعل عبادة القلوب روح العبادات، وجعل حركة الأبدان هياكلها، وفضل عبادة القلب على عبادة البدن؛ لأنه لا صلاح للبدن إلا بصلاح القلب، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق:37] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله؛ كان كثير التفكر في الملكوت الأعلى، يقلب وجهه في السماء؛ ليرى عظمة الله تعالى في خلقه، ويبصر آياته في كونه، فيخشع قلبه، وينهمر دمعه، ويتجه بكليته لله تعالى معظما ذاكرا قانتا وراكعا وساجدا حتى تتفطر قدماه من طول صلاته، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.




أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وعظموه بقلوبكم، وأقيموا له دينكم، تفكروا في عظمته، وتدبروا آياته، واعلموا أنكم مهما تفكرتم فلن تحيطوا بخلقه كثرة واتساعا وعظمة، فأنى لكم أن تدركوا عظمة الخالق سبحانه وقداسته وكبرياءه ﴿ هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلَامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الحشر:23].


أيها الناس: جعل الله تعالى درجة الإحسان أعلى درجات الدين، فهي فوق الإيمان والإسلام؛ لأن الإحسان يبلغ بصاحبه مدارج اليقين، حتى إنه من شدة يقينه كأنه يرى الله تعالى. واليقين محله القلب، وسُلمه التفكر، فكلما تدبر العبد الآيات القرآنية، وتفكر في الآيات الكونية ازداد يقينه، وبقدر إهماله لعبادتي التدبر والتفكر يضعف يقينه، ثم يضعف إيمانه، حتى تكون العبادة مجرد حركات يؤديها بدنه، ولا يشعر بها قلبه، مع أن العبادة في الأصل ترسخ الإيمان وتزيد اليقين وتؤثر في صاحبها؛ ولذا كانت الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وكانت آيات القرآن إذا تليت تزيد الإيمان.


إن الآيات القرآنية التي تدعو إلى التدبر والتفكر كثيرة جدا، وهي توجه قارئ القرآن إلى مجالات من التفكر تنفعه في زيادة الإيمان، وتحصيل اليقين، وإصلاح القلب:
فآيات تأمر بالتفكر في آيات الله تعالى الكونية، وفي أفعاله عز وجل، وفي قدرته سبحانه على تدبير خلقه، وقد خوطب بهذه الآيات المؤمنون والكفار:
أما المؤمنون فأمروا بالتفكر في الآيات الكونية، والأفعال الربانية؛ لزيادة الإيمان، وتحصيل اليقين، والوصول بالقلب إلى درجة الإحسان في مراقبة الله تعالى وعبوديته. قال الله تعالى في وصف تفكر هذا الفريق ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ [آل عمران: 190-191] فتفكرهم هذا زاد يقينهم وإيمانهم بالله تعالى حتى ذكروه في كل أحوالهم قائمين وقاعدين وراقدين، فلهجوا بدعائه قائلين ﴿ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران:191].


فهم منتفعون بالتفكر؛ لأنه أوصلهم إلى اليقين الذي أخرج منهم عبوديتهم لله تعالى وذكره وشكره؛ ولذا قال الله تعالى في هذا النوع من التفكر ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴾ [الفرقان:62]. فعلم بهذا أن من زاد إيمانه ويقينه وذكره لله تعالى وشكره بعد تفكره؛ فقد انتفع قلبه بهذا التفكر.


وأما الكفار فدعوا لهذا النوع من التفكر لتحصيل الإيمان، وترك الكفر بالله تعالى؛ ولذا قال الله تعالى في كفار قريش ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 184-185] وفي آية أخرى ﴿ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى ﴾ [الرُّوم: 8].


وكم أدخل هذا النوع من التفكر كفارا في الإسلام؟ وكم نقل قلوبا من الجحود إلى الإيمان؟ ومن التكذيب والاستكبار إلى التصديق والإذعان؟ وكثير ممن أسلم من علماء الغرب إنما قادهم هذا النوع من التفكر إلى الإسلام. وسمع جبير بن مطعم رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ ﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ ﴾ [الطُّور: 35] فكاد قلبه أن يطير من هذا البرهان العقلي الذي يثبت آية الخلق، فقاده تفكره فيها إلى الإيمان.


والله تعالى كما دعا الناس إلى التفكر في الآيات الكونية لتحصيل الإيمان أو ترسيخه باليقين؛ دعانا كذلك إلى التفكر في أحكامه الشرعية؛ للاستدلال بها على عدله ورحمته وحكمته، والاشتغال بعبادة الشكر على شريعته، والمبادرة إلى الامتثال والعمل بها، ومن هذا النوع: أن الله تعالى ختم آية الحكم في الخمر والميسر بقوله تعالى ﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ [البقرة: 219]. وختم آيات أحكام المطلقات بقوله تعالى ﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 242] وختم آية من آيات الوصايا العشر في الأنعام بقوله تعالى ﴿ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنعام: 151] وختم آية أحكام البيوت من سورة النور بقوله تعالى ﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [النور: 61].


وأمرنا ربنا تبارك وتعالى أن نتفكر في نعمه التي أنعم بها علينا للإكثار من شكره عز وجل كما قال سبحانه ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [الروم: 21 - 24]. فمن قلب فكره في نعم الله تعالى وجد أن لله تعالى في كل شيء نعمة، وفي كل لحظة نعمة، بل نعم شتى، فلا يفتر عن الحمد والشكر لله تعالى، ومن لم يتفكر في نعم الله تعالى عليه ضعف شكره، وكثر سخطه، وانعدم رضاه عن ربه عز وجل.


وأمرنا الله تعالى أن نتفكر في عاقبة المكذبين، ومصارع الظالمين؛ للاعتبار بحالهم، ومجانبة مسلكهم، ومجافاة أعمالهم؛ لئلا يصيبنا ما أصابهم، والآيات في ذلك كثيرة ﴿ أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى ﴾ [طه: 128] ﴿ أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ ﴾ [السجدة: 26] ﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي البِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 36-37] ﴿ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 51].


فتفكر المتفكر إما أن يكون في الملكوت الأعلى الدال على قدرة الله تعالى، أو في أحكامه الشرعية الدالة على علمه وحكمته ورحمته، أو في نعمه لتحقيق شكره، أو عذابه لاجتناب سخطه، وقد جمع القرآن كل هذه المجالات من التفكر، ودعانا إليها ربنا سبحانه؛ لنحقق اليقين الذي يوصلنا إلى درجة الإحسان، بأن نعبد الله تعالى كأننا نراه ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29].


بارك الله لي ولكم في القرآن...


الخطبة الثانية

الحمد لله حمدا كثيرا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.


أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وتفكروا في عظمته وأسمائه وصفاته، وفي نعمه وآلائه، وفي حكمته وأحكامه وأفعاله، وفي شدة بطشه وانتقامه من أعدائه ﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ* فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ﴾ [البروج: 12 - 16].


أيها المؤمنون: ينبغي للمؤمن أن يعيش عبادة التفكر في كل لحظاته؛ حتى تكون حياته كلها عبادة، فإن التفكر إشغال للعقل وإحياء للقلب، وإن الغفلة تعطيل للعقل وإماتة للقلب؛ فمن روض فكره على التفكر داوم عليه، فحصد الأجور العظام وهو لم يتحرك من مكانه. ومن غطى عقله بداء الغفلة خسر السعادة، وكان حريا بالشقاوة؛ فإن العيش بالفكر مع الله تعالى في خلقه وأفعاله ونعمه وأحكامه يزيد القرب منه، والأنس به، والزلفى لديه، وما فرح قلب بشيء أشد من فرحه بالله تعالى، وكل فرح مهما عظم فهو دون ذلك؛ لأنه فرح بمخلوق، وشتان بين فرح بالخالق وفرح بالمخلوق.


قال جمع من السلف: تفكر ساعة خير من قيام ليلة.


وسبب ذلك: أن التفكر يلين القلب، ويشرح الصدر، ويهيئ النفس للعبادة، فيقبل عليها صاحبها بمحبة وخشوع، ويجد فيها لذة وراحة قال وهب بن منبه رحمه الله تعالى: ما طالت فكرة أمريء قط إلا فهم، ولا فهم أمرؤ قط إلا علم، ولا علم أمرؤ قط إلا عمل.


والتفكر في نعم الله تعالى وآلائه يزيد في محبته سبحانه، ويحرك اللسان بالحمد والشكر، ويحفز الجوارح للعمل؛ حياء من الله تعالى، قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: الكلام بذكر الله حسن، والفكرة في نعم الله تعالى أفضل العبادة.


وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى: «إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله تعالى عليّ فيه نعمة ولي فيه عبرة».


إن الخشوع هو روح العبادات ولبها، وإذا فُقد الخشوع من عبادة لم تؤثر في صاحبها، والتفكر هو الطريق المضمون للخشوع وللذة العبادة. وعبادة قليلة بخشوع خير من عمل كثير بلا خشوع، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة والقلب ساه.


إن التفكر هو نور القلب وضياؤه، وإذا ما القلب أضاء واستنار عاد ذلك على الجوراح بالنشاط في العبادة، واللذة بها، وكم من متفكر عابد يجد من لذة العبادة ما يجعله يطيلها طولا يرحمه من يراه، ويظن أنه يرهق نفسه، وما درى أنه يجد نعيما فيما هو فيه من مشقة لا يجدها أصحاب القصور في قصورهم، ولا أهل الأموال في أموالهم.. ذلكم هو الأنس بالله تعالى، حصله العبد حين استضاء إيمانه باستنارة قلبه بعبادة التفكر. قال عامر بن عبد قيس رحمه الله تعالى: سمعت غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: إن ضياء الإيمان أو نور الإيمان التفكر.


وقال سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى: الفكر نور يدخل قلبك.


وربما تمثل قائلا: إذا المرء كانت له فكرة ففي كل شيء له عبرة.


﴿ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ ﴾ [غافر: 13].


وصلوا وسلموا على نبيكم...