عضو مميز
- معدل تقييم المستوى
- 24
ضلال من زعم أنه لا يعبد الله خوفًا من ناره
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فخوف وعيد الله -عز وجل- واجب؛ قال الله -عز وجل- عن الكفار: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ)، فوقهم غمامات من النار تغطيهم، وتحتهم فرش من النار، (ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) (الزمر:16).
أبعد ذلك يجوز أن يقول إنسان: "أنا لا أخاف النار"، أو "لا أخاف القيامة"؟ والله من قال هذه الكلمات لا يكون مؤمنًا بالقرآن العظيم.
وقد ظن أناس من الجهلة أن هذه المقالة تدل على سمو محبة قائلها، وهؤلاء الذين يظنون ذلك لم يقرؤوا القرآن؛ لأن الله -عز وجل- يقول: (ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) (الزمر:16).
ثم هؤلاء يرفعون أنفسهم فوق منزلة الأنبياء والمرسلين، والله -عز وجل- يقول عن الملائكة: (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (النحل:50)، ويقول -عز وجل- عنهم أيضًا: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ . لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ . يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (الأنبياء:26-28)، وكذلك الأنبياء مشفقون من خشيته -عز وجل-، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَمَا وَالله إِنِّي لأَتْقَاكُمْ لله وَأَخْشَاكُمْ لَهُ) (رواه مسلم)، فإذا كان خير الخلق -صلى الله عليه وسلم- أشد الخلق خشية لله؛ فما بال هؤلاء المبتدعين الضلال يريدون أن يرتفعوا فوق منازل الأنبياء، ويسمون عبادة الخوف عبادة العبيد ترفعًا عنها، ويقولون عن عبادة الرجاء أنها عبادة التجار، وعن عبادة الخوف أنها عبادة العبيد، وعن عبادة الحب أنها عبادة الأحرار؟
وإذا سمع الجاهل هذه الكلمات فإنه يقول : "لماذا أكون عبدًا؟ أكون حرًّا أفضل، ولماذا أكون تاجرًا؟ أنا لا أحب أن أكون تاجرًا، أنا أحب أن أكون حرًّا"، ولا يخفى أن في هذا الأسلوب ذم للأمرين الأولين ومدح للحرِّ، وبذلك نصبوا المعركة بين أجنحة العبادة التي لا يمكن أن تتم العبادة إلا بها، وجعلوها أنواعًا متخاصمة لا متلازمة، والعياذ بالله.
وإذا علم العبد أن الأنبياء من آدم إلى عيسى -عليهم السلام- يقول كل منهم : (إِنَّ رَبِّي غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ) (متفق عليه)، وإذا كان إبراهيم -عليه السلام- وهو الخليل يقول: (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ . يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ . إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء:87-89) خوفـًا من الخزي يوم القيامة؛ فهل هؤلاء أفضل من الأنبياء؟! نعوذ بالله من الزندقة، وصدق من قال من السلف: "من عبد الله بالخوف وحده فهو زنديق".
وهذا الكلام يدل على أنهم لم يقرؤوا القرآن مؤمنين به، ولو قرؤوه مؤمنين به لكان أحسن أحوالهم أنهم غفلوا؛ لأنهم فكروا بعقولهم وعواطفهم الجاهلة القاصرة، وقد قال -تعالى-: (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (الأعراف:99).
ومن ينظر في كلام هؤلاء الزنادقة لن يجد إلا سخافات فظيعة في هذا المقام، كقول أحدهم: "لن أسكت حتى أنصب خيمتي على جهنم، فلا يدخلها أحد من أتباعي"، نعوذ بالله من هذه الضلالات الفظيعة التي تخرج من الملة.
وزوال الخوف من القلب يستلزم الأمن من مكر الله -عز وجل-، وهذا لا يكون من مؤمن أبدًا، ومن هنا تعلم ضلال من زعم من الصوفية أنه لا يعبد الله -عز وجل- خوفًا من ناره ولا طمعًا في جنته، وهى كلمة منسوبة إلى رابعة العدوية، والله أعلم بصحة نسبة هذه الكلمة لها؛ لأنها كلمات مرسلة لم تُنقل بأسانيد، وشخصية رابعة نفسها في وجودها نظر، ولكن نقلت لها تراجم كثيرة، أما الكلمة المنقولة عنها : "اللهم إن كنت أعبدك طمعًا في الجنة فاحرمني منها، وإن كنت أعبدك خوفًا من نارك فأدخلني فيها"؛ فهي كلمة فظيعة، كيف وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- للرجل الذي قال : "لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، لكني أقول: اللهم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار"، فقال: (حَوْلهَا نُدَنْدِنُ) (رواه أبو داود وابن ماجه، وصححه الألباني)، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- وخاصة أصحابه يدندنون حول : "اللهم إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار"، ويقول: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (البقرة:201) في معظم أدعيته التي يدعو بها -صلى الله عليه وسلم-، ثم هم يقولون: "إن كنت أعبدك طمعًا في جنتك فاحرمني منها"، أي: لا أريد الجنة!
وآخر يقول أن من عبد الله طمعًا في الجنة فقد أشرك، مستدلاً بقوله -تعالى-: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (الكهف:110)، فالجنة دخلت في عموم: (وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)، فقال: "نحن لا نشرك ولا نطلب الجنة"، وما ذاك إلا لأنهم نصبوا الصراع بين أجنحة العبادة الثلاثة، وقد وقع في ذلك بعض المتأخرين من شرَّاح الأحاديث في شرح الأربعين النووية المنسوب للنووي في قوله أن الخوف عبادة العبيد، والرجاء عبادة التجار، والحب عبادة الأحرار(1).
وقد قال بعض السلف : "من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد"، فاختاروا لمن عبد الله بالحب وحده وصف الزندقة الذي حقيقته الوصف بالنفاق؛ لأنه يريد أن يهدم الإسلام بهدم حقيقة العبادة، وقولهم عمن عبد الله بالخوف وحده أنه حروري فهو نسبة إلى حروراء التي بدأ ظهور الخوارج بها في عهد عليٍّ -رضي الله عنه- وقُتلوا عندها، فالحرورية هم الخوارج الذين يغلِّبون جانب الخوف، ولذلك سُموا وعيدية، وقولهم عمن عبد الله بالرجاء وحده أنه مرجئ أي: من طائفة المرجئة التي تؤخر العمل؛ لأنهم يعبدون الله دون خوف، أما من عبد الله بالخوف والحب والرجاء فهو المؤمن الموحد.
المفضلات