.
ثالثاً :
قال الله تعالى : ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) الآيتين من سورة التحريم .
بعد أن عاتب الله تعالى أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخاصة عائشة وحفصة رضي الله عنهن جميعاً على ما بدَر منهن مما لا يليق بحسن معاشرة النبي صلى الله عليه وسلم حتى حلف أن يعتزلهن شهراً ، وأنكر تعالى عليهن بعض ما وقع منهن من أخطاء في حقه عليه الصلاة والسلام ، وأنذرهن بالطلاق وأن يبدله أزواجاً خيراً منهن : ختم سورة التحريم بمثلَين : مثل ضربه للذين كفروا بامرأتين كافرتين امرأة نوح وامرأة لوط ، ومثل ضربه للذين آمنوا بامرأتين صالحتين بآسية امرأة فرعون ، ومريم بنت عمران ؛ إيذاناً بأن الله حكم عدل لا محاباة عنده ، بل كل نفس عنده بما كسبت رهينة ، وحث العباد على التقوى ، وأن يخشوا يوماً يرجعون فيه إلى الله ، يوماً لا يجزي فيه والد عن ولده ، ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً ، يوم يفرُّ المرء من أخيه ، وأمه وأبيه ، وصاحبته وبنيه ، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ، يوم لا تزر فيه وازرة وزر أخرى ، وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى ، يوم لا تنفع فيه الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولاً ، فبيَّن سبحانه أن امرأة نوح وامرأة لوط كانتا كافرتين ، وكانتا تحت رسوليْن كريميْن من رسل الله ، وكانت امرأة نوح تخونه بدلالة الكفار على مَن آمن بزوجها ، وكانت امرأة لوط تدل الكفار على ضيوفه ، إيذاء وخيانة لهما ، وصدّاً للنَّاس عن اتباعهما ، فلم ينفعهما صلاح زوجيهما نوح ولوط ، ولم يدفعا عنهما من بأس الله شيئاً ، وقيل لهاتين المرأتين : ادخلا النار مع الداخلين ، جزاءً وفاقاً بكفرهما وخيانتهما ؛ بدلالة امرأة نوح على من آمن به ، ودلالة امرأة لوط على ضيوفه ، لا بالزنى ، فإن الله سبحانه لا يرضى لنبي من أنبيائه زوجة زانية ، قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى ( فَخَانَتَاهُمَا ) قال : " ما زنتا " ، وقال : " ما بغت امرأة نبي قط إنما كانت خيانتهما في الدين " ، وهكذا قال عكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وغيرهم .


وبيَّن الله سبحانه بالمثل الذي ضربه للذين آمنوا بآسية زوجة فرعون ، وكان أعتى الجبابرة في زمانه ، أن مخالطة المؤمنين للكافرين لا تضرهم ، إذا دعت الضرورة إلى ذلك ، ما داموا معتصمين بحبل الله تعالى متمسكين بدينه ، كما لم ينفع صلاحُ الرسولين : نوح ولوط زوجتيهما الكافرتين ، قال الله تعالى : ( لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) ، ولذلك لم يضر زوجة فرعون كفرُ زوجها وجبروته ، فإن الله حكم عدل لا يؤاخذ أحداً بذنب غيره بل حماها وأحاطها بعنايته وحسن رعايته ، واستجاب دعاءها وبنى لها بيتاً في الجنة ، ونجَّاها من فرعون وكيده ، وسائر القوم الظالمين


مما تقدم في تفسير الآيات من أن ابن نوح ليس ابن زنى ، وأن عائشة رضي الله عنها برَّأها الله في القرآن مما رماها به رأس النفاق ، ومن انخدع بقوله من المؤمنين والمؤمنات ، وأن كلا من امرأة نوح وامرأة لوط لم تزن وإنما كانتا كافرتين ، ودلت كل منهما الكفار على ما يسوؤهما ويصد الناس عن اتباعهما ، وأن زواج المؤمن بالكافرة كان مباحاً في الشرائع السابقة ، وكذا زواج الكافر بالمؤمنة ، وأن الله حمى امرأة فرعون من كيده وحفظ عليها دينها ونجاها من الظالمين : يتبين أن الآيات المذكورة متوافقة ، لا متناقضة ، وأن بعضها يؤيِّد بعضاً .

" فتاوى اللجنة الدائمة " ( 3 / 270 – 276 ) .

والله أعلم