الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛
فإنَّ التعلُّقَ بالله سبب لكل خير، وهو روح التوحيد وأساس السعادة، وهل بعثت الرسل ونزلت الكتب إلا لذلك؟ والانشغال عن ذلك والغفلة عنه والتعلق بغيره أعظم خذلان وأكبر حرمان، وهذه كلمات في هذا الباب أسأل الله أن ينفع بها وأن يحقق لكاتبها الإخلاص والقبول..


النبي صلى الله عليه وسلم يعلِّق القلوب بالله:


ففي صحيح مسلم، عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: «اغزوا باسم الله، في سبيل الله... فإن هم أبوا([1]) فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم».
وعن عثمان بن أبي العاص الثقفي رضي الله عنه أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعا يجده في جسده منذُ أسلم. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل: باسم الله ثلاثا، وقل سبع مرات: أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأُحاذر» رواه مسلم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: «يا غلام إني أعلمك كلمات؛ احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله» رواه الترمذي.
وفي سنن أبي داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد ذات يوم، فرأى فيه رجلاً من الأنصار، يقال له أبو أُمامة، فقال: «يا أبا أمامة ما لي أراك جالسا في المسجد في غير وقت الصلاة»؟ قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله. قال: «أفلا أعلِّمُك كلاما إذا أنت قلته أذهب الله عز وجل همَّك وقضى عنك دينَك»؟ قال: قلت: بلى يا رسول الله. قال: «قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحَزَن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غَلَبَة الدين وقهر الرجال». قال: ففعلت ذلك، فأذهب الله عز وجل همي وقضى عني ديني.
ولما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بأن سبعين ألفا يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب قال معرفاً بصفاتهم: «هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون» رواه الشيخان. وإنما تركوا ذلك لكمال تعلقهم بالله.
وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: عظني وأوجز، فقال: «إِذَا قُمْتَ فِي صَلَاتِكَ فَصَلِّ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ، وَلَا تَكَلَّمْ بِكَلَامٍ تَعْتَذِرُ مِنْهُ غَدًا، وَاجْمَعْ الْإِيَاسَ مِمَّا فِي يَدَيْ النَّاسِ» رواه أحمد.
قال السعدي رحمه الله في بهجة قلوب الأبرار (ص 169): "هذه الوصية توطين للنفس على التعلق بالله وحده في أمور معاشه ومعاده، فلا يسأل إلا الله، ولا يطمع إلا في فضله. ويوطن نفسه على اليأس مما في أيدي الناس؛ فإن اليأس عصمة. ومن أَيِس من شيء استغنى عنه، فكما أنه لا يسأل بلسانه إلا الله، فلا يعلق قلبه إلا بالله، فيبقى عبداً لله حقيقة، سالماً من عبودية الخلق، قد تحرر من رقِّهم، واكتسب بذلك العز والشرف؛ فإن المتعلق بالخلق يكتسب الذل والسقوط بحسب تعلقه بهم".
وثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استغنوا عن الناس» رواه البزَّار والطبراني.
وفي سنن ابن ماجه عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا أنا عملته أحبني الله وأحبني الناس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ازهد في الدنيا يحبَّك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبَّك الناس».
وكل حديث رهَّب فيه النبي صلى الله عليه وسلم عن سؤال الناس فإنه يربي على التعلق بالله، ومن ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مُزْعَة لحم» رواه البخاري ومسلم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من فتح على نفسه باب مسألة من غير فاقة فتح الله عليه باب فاقة من حيث لا يحتسب» رواه البيهقي.


ثمرات التعلق بالله والاستغناء عن الناس:


الكفاية والوقاية:


قال تعالى: }وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا{ [الطلاق/3].
والمعنى أن الله كافيه؛ فإنه سبحانه بالغ ما يريده من الأمر لا يفوته شيء، ولا يعجزه مطلوب.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل» رواه أبو داود والترمذي.
قال الإمام أحمد: حدثنا هشام بن القاسم، حدثنا أبو سعيد المؤدب، حدثنا من سمع عطاء الخراساني قال: لقيت وهب بن منبه وهو يطوف بالبيت، فقلت: حدثني حديثاً أحفظه عنك في مقامي هذا وأوجز، قال: نعم، أوحى الله تبارك وتعالى إلى نبيه داوُد عليه السلام: (يا داوُد! أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم بي عبدٌ من عبادي دون خلقي، أعرف ذلك من نيته، فتكيده السماوات السبع ومن فيهن، والأرضون السبع ومن فيهن، إلا جعلتُ له من بينهن مخرجاً، أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم عبدٌ من عبادي بمخلوقٍ دوني، أعرف ذلك من نيته، إلا قطعتُ أسباب السماء من يده، وأسخت الأرض من تحت قدمه، ثم لا أبالي بأي أوديتها هلك).


عزُّ المؤمن باستغنائه عن الخلق:


فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزَّه استغناؤه عن الناس» رواه الطبراني في الأوسط. والعزُّ ضد الذل.


نيل محبة الله:


قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب الغني الحليم المتعفف، ويبغض البذيء الفاجر السائل الملح» رواه البزار.
الجنة:
ثبت في مسند أحمد عن ثوبان رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من يتكفلُ لي بواحدة وأتكفلُ له بالجنة». قال ثوبان: أنا. قال: «لا تسأل الناس شيئاً». فكان لا يسأل أحداً شيئاً.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «عرض علي أول ثلاثة يدخلون الجنة: شهيد، وعفيف متعفف، وعبد أحسن عبادة الله، ونصح لمواليه» رواه الترمذي.


صور من التعلق بالله والاستغناء عن الخلق:


في الصحيحين عن جابر بن عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ e قِبَلَ نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللهِ e قَفَلَ مَعَهُ، فَأَدْرَكَتْهُمْ الْقَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ –شجر شوك- فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ e وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْعِضَاهِ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ e تَحْتَ سَمُرَةٍ –شجر الطلح- فَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ، فَنِمْنَا نَوْمَةً ثُمَّ إِذَا رَسُولُ اللَّهِ e يَدْعُونَا، فَجِئْنَاهُ، فَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ جَالِسٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e :«إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ سَيْفِي وَأَنَا نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا، فَقَالَ لِي: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قُلْتُ: اللَّهُ، فَهَا هُوَ ذَا جَالِسٌ» ثُمَّ لَمْ يُعَاقِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ