الخطبة الثانية


الحمدلله رب العالمين؛ دلت مخلوقاته على أنه الرب المعبود، وأن ما سواه عبيد مخلوقون، خلقهم وصرفهم على مقتضى علمه وحكمته ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [يونس:3] نحمده ونشكره ونتوب إليه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله ربكم، وأخلصوا له عملكم، وارجوا رحمته، واحذروا سخطه ، ولا تأمنوا مكره ﴿ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلَّا القَوْمُ الخَاسِرُونَ ﴾ [الأعراف:99].

أيها المسلمون: الريح خلق من خلق الله تعالى، سخرها لمنافع عباده ومصالحهم، تكون رحمة وتكون عذابا، وما أُنزل بها على البشر من رحمات أرحم الراحمين أكثر مما أخذت من المكذبين، وهذا من إعذار الله تعالى للبشر،وإملائه لهم، ورحمته بهم.
والمشروع للمسلم عند هبوب الريح أن يخاف العذاب ؛ فقد عذب أقوام بها في القديم والحديث، وما الأعاصير التي وقعت في الشرق والغرب فأهلكت بشرا كثيرا إلا من عذاب الله تعالى بها، روت عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم الريح والغيم عرف ذلك في وجهه وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سُرَّ به وذهب عنه ذلك، قالت عائشة: فسألته، فقال: إني خشيت أن يكون عذابا سُلِط على أمتي) وفي رواية (فقال: يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا) رواه مسلم.
ولما كانت الريح من أمر الله تعالى، وقد يتضرر بها بعض الناس، بفساد زروعهم وثمارهم، أو نفوق أنعامهم وتلف أموالهم، أو خراب مدنهم وعمرانهم كما في العواصف والأعاصير الشديدة فإنه لا يحل لأحد سبها؛ فمسبتها مسبة لله تعالى؛ لأنه خالقها وآمرها ومدبرها جل في علاه، بل ينبغي للمسلم عند هبوبها أن يلحظ قدرة الله تعالى فيها، ويلتزم بما ورد في السنة. روى أبي بن كعب رضي الله عنه فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الريح فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أخذت الناسَ ريحٌ بطريق مكة وعمر بن الخطاب حاجٌّ فاشتدت عليهم، فقال عمر لمن حوله: من يحدثنا عن الريح؟ فلم يرجعوا إليه شيئا، فبلغني الذي سأل عنه عمر من ذلك، فاستحثثت راحلتي حتى أدركته فقلت: يا أمير المؤمنين، أُخبرت أنك سألت عن الريح وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الريح من رَوْحِ الله تأتي بالرحمة وتأتى بالعذاب فإذا رأيتموها فلا تسبوها وسلوا الله خيرها واستعيذوا به من شرها) رواه أحمد.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رجلا نازعته الريح رداءه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلعنها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنها فإنها مأمورة، وإنه من لعن شيئا ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه) رواه أبو داود.
وأما الدعاء بقوله: اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا، فلم يصح في ذلك شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، والأولى للمسلم أن يقتصر على ما ورد؛ فإنه أتبع للسنة، وأنفع له.
وصلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم....