فنلندا تعلن عهداً تعليمياً جديداً بإلغاء المواد الدراسية من صفوفها




يعدّ النظام التعليمي في فنلندا من أقوى الأنظمة التعليمية في العالم وأفضلها. ولا يمكن أن تجده في سنةٍ من السنوات إلا في قائمة أفضل عشرة أنظمة تعليمٍ عالمية. وعلى الرغم من ذلك فإنّ السلطات المسؤولة عن التعليم هناك لا تتوقف عن البحث عن أفضل الطرق لتعليم طلابها.

ومن هنا جاءت الخطوة الكبيرة والقفزة النوعية التي اتخذتها فنلندا في مجال التعليم، ألا وهي حذف المواد الدراسية من المناهج التعليمية للأطفال في المدارس!!


كيف استطاعت فنلندا تحقيق ذلك التقدم!



لا شكّ أنّ هذا التقدم الكبير في المجال التعليمي في فنلندا لم يكن وليد يومٍ وليلة، ولم يكن عن طريق تجربة طريقةٍ تعليميةٍ ما لتنجح فوراً، بل كان بسبب العمل الدؤوب والتجارب المتلاحقة لاختيار النظام التعليمي الأنسب، إضافةً إلى الكثير من الإبداع العقلي والتطور التكنولوجي.




صورة لأحد الصفوف في فنلندا، لـ جوسي هيلتونين، الاندبندنت


فعندما تدخل أحد الصفوف في مدرسةٍ فنلندية، في مراكز المدن أو في الريف القاصي، لا نجد الكثير من المعدات التكنولوجية، أو الهواتف المحمولة اللوحية أو غيرها وإنما قد نجد لوحاً تفاعلياً عند المدرّس بالإضافة إلى حاسوبٍ للمدرس لا أكثر.


وعلى الرغم من أنّ هذه المعدّات لا تتواجد في أغلب المدارس العربية، لكنّها ليست وحدها السبب في تطور التعليم في فنلندا كما يعتقد البعض، فهناك الكثير من العوامل الأخرى المهمة، ولنختصرها بكلمة واحدة، المدرّس.فالمدرّس في فنلندا، ليس مكبّلاً بحبال البيروقراطية، المناهج الضخمة، والقوانين والتعليمات المكثّفة التي لربما تكون ضخامتها بنفس ضخامة المناهج نفسها (كما هو الحال في كثيرٍ من بلدان العالم المتطورة والنامية)، لكنّهم يمتلكون حرية التجريب والابتكار كونهم يعدّون خبراء مهنين موثوقين في عملهم. فيتم تشجيعهم بشكلٍ دائم على اختبار أساليبٍ وطرق تعليمية جديدة لتحسين جودة التعليم.

وهذه الثقة لا تأتي عن عبثٍ بالطبع، فلا يسمح لأي استاذٍ في فنلندا القيام بتدريس صفٍ ابتدائي دون حصوله على درجة الماجستير في التعليم، مع تخصصٍ في الأبحاث وممارسات الصف الدراسي، وذلك من إحدى الكليات العالية المرموقة الموجودة في فنلندا.

الخطوة النوعية



“هناك مدارس تدرّس بالطريقة التقليدية القديمة والتي كانت تجدي نفعاً في بداية القرن الماضي، لكنّ الاحتياجات الآن مختلفة، ونحتاج إلى شيءٍ يناسب القرن الواحد والعشرين” بحسب ماريو كيلونين، رئيسة قسم التعليم في هلسنكي، عاصمة فنلندا.فلن يتواجد بعد اليوم حصصٌ دراسية مخصصة لكل مادة؛ ساعة من الفيزياء في الصباح، ساعة من الجغرافية بعدها، يلي ذلك ساعتين من الرياضيات، الأدب، والتاريخ. بل، وبدلاً من المواد المنفردة، سيدرس الطلابالحوادث والظواهر بطريقةٍ تقاطع بين مختلف التخصصات.

فلن يقع الطالب في المعضلة المحيرة التي لطالما استحوذت على لبّه: “بماذا ستفيدين هذه المعلومة الغريبة؟!”وبحسب باسي سيلاندير، مدير التطوير في المدينة:


“ما نحتاج إليه اليوم هو نوع مختلف من التعليم لإعداد الناس للحياة العملية، فالشباب يستخدمون حواسيب متطورة، لكن في الماضي كانت البنوك تعتمد على الكثير من الموظفين، لكن الأمر تغيّر اليوم. لذلك يجب علينا القيام بتعديلات بالنظام التعليمي والتي تعدّ ضروريةً للعمل والصناعة في المجتمعات المعاصرة”.

فمثلاً الشبان في الاختصاصات المهنية يمكن أن يأخذوا درساً في “خدمات الكافيتريا”، والذي سيحتوي على عناصر من الرياضيات، اللغات (لمساعدة الزبائن الأجانب)، مهارات الكتابة، بالإضافة إلى مهارات التواصل.وكذلك الأمر بالنسبة للاختصاصات الأكاديمية المختلفة، حيث سيتم تدريس الطلاب مواضيع متقاطعة بين المواد المختلفة، فعلى سبيل المثال، موضوع الاتحاد الأوروبي سيضم عناصر ومعلوماتٍ من الاقتصاد، التاريخ (تاريخ البلاد الموجودة ضمنه)، اللغات والجغرافية.

هناك المزيد!





صورة لـ اندريس مايشنسر

نعم، هناك المزيد من الإضافات أيضاً، فالطريقة التقليدية بالتدريس – التي نرى من خلالها صفوفاً من الطلاب جالسين بشكلٍ منفعل أمام الأستاذ، يستمعون إلى الدروس، وينتظرون أستاذهم ليسألهم – انتهت أيضاً. بدلاً من ذلك سيتم اتباع طريقةٍ جديدةٍ أكثر تفاعلية، فسيتم تقسيم الطلاب ضمن مجموعاتٍ صغيرةٍ للعمل على حل المشاكل بالإضافة إلى تنمية مهارات التواصل لديهم.

لكن، هل الجميع موافق؟



لا يؤيد جميع المدرسين والأساتذة هذه السياسة المتبعة في التعليم، فهناك الكثير من المدرسين من الذين قضوا حياتهم في تدريس اختصاصٍ معين، ومن الصعب جداً تحويلهم إلى طريقةٍ جديدةٍ كلياً.فموضوع الإلمام بكل جوانب حدثٍ أو ظاهرةٍ محددة ليس بالأمر السهل، ويتطلب الكثير من التدريب وإعادة التأهيل، وهذا ما وفّرته فنلندا لأساتذتها ومدرسيها بالطبع.عداك عن التشجيع الذي قدّمته لهم، سواءً المعنوي أو المادي، حيث يتلقّى كل مدرّس يتبنى هذه الطريقة الجديد بالتدريس زيادة وإن كانت صغيرة على راتبه لكنّ لها الأثر الكبير! فهذه العملية والثروة التعليمية تطلب الكثير من التعاون بين المؤسسات والمدرسين.

وحالياً فإنّ أكثر من 70% من مدرسي المدارس الثانوية في المدينة قد تلقّوا تدريباتٍ مكثّفة ليستطيعوا من خلالها تطبيق الطريقة الجديدة في التعليم.وبحسب السيد سيلاندير:

“لقد استطعنا تغيير العقلية بشكلٍ كامل، فمن الصعب جداً على الأساتذة البدء من الصفر من جديد… لكن الأساتذة الذين أخذوا طلابهم إلى المنهج الجديد يقولون أنّهم لا يمكنهم العودة إلى النظام القديم.”
ويتوقع أن تصبح هذه التغيرات جاهزة بالكامل مع حلول عام 2020.وفي الختام، علينا ألا ننسى أنّ نجاح فنلندا التاريخي في التفوق التعليمي لم يكن بمحض الصدفة، ولا بسرعة البرق، بل تتطلب الكثير من العمل والجد على مدار السنين المتعاقبة. وهذا الأمر لا ينبع إلى من قلب أمةٍ أحبت أطفالها ورأت فيهم نواة المستقبل وأمله، إضافةً إلى الاحترام العميق لدور المدرّس وإعطائه الثقة المطلقة من قبل المؤسسات التعليمية بالإضافة إلى الأهل والطلاب.